ترجمته
هو الإمام الجليل المجتهد المطلق أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب، ولد في طبرستان سنة مائتين وأربع وعشرين للهجرة، وقيل مائتين وخمس وعشرين. وقد تحدث عن أمره في حداثة سنه فقال: «حفظت القرءان ولي سبع سنين، وصليت بالناس وأنا ابن ثماني سنين، وكتبت الحديث وأنا ابن تسع».
وكان أبوه ورعًا تقيًا متصوفًا ذا يسار، فما إن أحسَّ من ابنه رجاحة في عقله ونزوعًا إلى العلم، حتى دفعه إلى الرحلة في سبيل طلب العلم، فكان أول ما رحل إلى الريِّ وما جاورها من البلاد، فأخذ عن شيوخها وأكثَرَ، ودرس الفقه في العراق على أبي مقاتل، وكتب عن أحمد بن حماد الدولابي كتاب «المبتدأ» وأخذ مغازي ابن إسحـٰـق عن سلمة بن الفضل وعليه بنى تاريخه فيما بعد.
ثم رحل إلى الكوفة فكتب فيها الحديث عن هنّاد بن السَّري وإسمـٰعيل بن موسى، وأخذ عن سليمان بن خلاد الطلحي القراءات. ولقي في الكوفة أبا كريب محمد بن العلاء الهمداني الذي كان عالم عصره، فسمع منه أكثر من مائة ألف حديث.
ومن الكوفة ارتحل إلى بغداد حيث انقطع إلى أحمد بن يوسف التغلبي المقرئ، ثم انكب على الفقه الشافعي فدرسه واتخذه مذهبًا وأفتى به سنوات.
وفي طريقه إلى مصر عرج على الشام فالتقى في بيروت العباس بن الوليد البيروتي المقرئ، فختم عليه القرءان برواية الشاميين، وتابع سيره إلى الفسطاط حتى بلغها سنة مائتين وثلاث وخمسين للهجرة. وطالت أيامه في مصر سنوات عَرَّج خلالها على الشام وأخذ من فقه الشافعي من الربيع والمزني وأبناء عبد الحكم، ومن فقه مالك عن تلاميذ ابن وهب.
وبعد فترة طويلة قضاها في مصر عاوده الحنين إلى بغداد فعاد إليها بعد رحلة طويلة وعزم على أن ينقطع للدرس والتأليف وبنى لنفسه دارًا وزَّع نفسه فيها بين العبادة والقراءة والتدريس والتأليف.
مناقبه
اشتُهِرَ عند كثير من العلماء والمؤرخين غزارة علم الإمام المجتهد محمد بن جرير الطبري وكثرة مؤلفاته، فقد كان واحدًا من أولئك الأفذاذ الذين سالت أقلامهم فخطَّت من المصنفات في العلوم المختلفة ما يدعو إلى العجب، فقد أورد التاج السبكي في طبقاته بمعرض ترجمته للإمـام الطبري عن علي بن عبد الله السمساني أن الإمام بقي أربعين سنة يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة. وذكر الفرغاني في كتابه «صلة التاريخ» أن بعض تلامذة الإمام الطبري حسبوا له عدد الصحائف التي خَطَّها بيده، ثم قسموها على عدد أيامه منذ أن بلغ الحُلُم إلى أن مات، فكان نصيب كل يوم من أيامه أربع عشرة ورقة.
يروي ابن سُرَيج في جملة ما يثبت غزارة تصانيف الإمام الطبري، أنه مرة قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرءان (أي لاستملائه)، فقالوا: كم يكون قدره قال: ثلاثون ألف ورقة فقالوا: هذا مما يُفني الأعمار قبل تمامه، فاختصره في نحو ثلاثة ءالاف ورقة، ثم قال: هل تنشطون لتاريخ العالم من ءادم إلى وقتنا قالوا: كم قدره فذكر نحوًا مما ذكره في التفسير، فأجابوا بمثل ذلك، فقال: إنا لله، ماتت الهمم، فاختصَرَه في نحو ما اختصر التفسير. والكتابان هما: «جامع البيان عن تأويل ءاي القرءان»، و«تاريخ الأمم والملوك» المعروف بتاريخ الطبري.
ومما ذكره التاج السبكي في طبقاته أنه قرأ على محمد بن إسمـٰعيل بن الخباز قصة مُفادها أن رحلة جمعت بين محمد بن جرير الطبري ومحمد بن اسحـٰق بن خزيمة ومحمد ابن نصر المروزي ومحمد بن هارون الروياني في بيت بمصر كانوا يأوون إليه ولم يكن عندهم ما يقوتهم وأثَّر فيهم الجوع، فاتفقوا على أن يقوم واحد منهم فيسأل لأصحابه الطعام، فكانت القرعة على ابن خزيمة. وبينما هو يصلي صلاة الخيرة إذا برجل من قبل والي مصر يقرع الباب ويدخل عليهم ويسأل: أيكم محمد بن نصر، فقيل هوذا، فأخرج صرة فيها خمسون دينارًا فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن جرير، فقالوا: هو ذا، فأخرج صرة فيها ما في الأولى فدفعها إليه، وفعل بالباقين كذلك وقال: إن الأمير كان نائمًا بالأمس فرأى في المنام خيالًا قال له: إن المحامِدَ جياع عندك فأنفِذْ إليهم هذه الصرار، وإن الأمير يُقْسِمُ عليكم إذا نَفدَت أن تبعثوا إليه.
ثناء العلماء عليه
من هؤلاء العلماء الذين عرفوا قدره ومنزلته من العلم التاج السبكي صاحب الطبقات الذي قال فيه: «الإمام الجليل المجتهد المطلق أبو جعفر الطبري من أهل طبرستان، أحد أئمة الدنيا علمًا ودينًا».
وقال فيه الخطيب: «كان ابن جرير أحد الأئمة يُحْكَمُ بقوله ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله. جَمَعَ من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، فكان حافظًا لكتاب الله، بصيرًا بالمعاني فقيهًا في أحكام القرءان، عالمًا بالسنن وطرقها صحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها، عارفًا بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المخالفين في الأحكام ومسائل الحلال والحرام، عارفًا بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك وكتاب في التفسير لم يصنف أحد مثله».
وفي كتاب «غاية النهاية في طبقات القراء» يورد ابن الجزري عن أبي حامد الاسفراييني إمام الشافعية في عصره أنه قال: «لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل تفسير ابن جرير لم يكن كثيرًا». وقال فيه الداني أبياتًا من الشعر:
محمد بن جرير **** إمام أهل زمانه
وكل جاهل عِلمٍ ***فعارف بمكانه
وكُتْبُهُ قد أبانت **** عن علمه وبيانه
عفا المهيمن عنه ****وزاد في إحسانه
مصنفاته
تنوعت تصانيفه الكثيرة في العلوم المختلفة من تفسير وحديث وفقه وغيره، واتسمت بالغزارة والقوة والإحاطة. ومن أشهر هذه المصنفات:
ءاداب المناسك،ءاداب النفوس، اختلاف علماء الأمصار في أحكام شرائع الإسلام، تاريخ الأمم والملوك المشهور بتاريخ الطبري، جامع البيان عن تأويل ءاي القرءان، الجامع في القراءات، الخفيف في الفقه، الرد على الحرقوصية، صريح السُنَّة، وهو رسالة ذكر فيها مذهبه، طرق الحديث، كتاب العدد والتنزيل، كتاب الفضائل، مختصر الفرائض، كتاب المسترشد، السند المجرد، كتاب الوقف، هذا بالإضافة إلى بعض المؤلفات التي بدأ تأليفها وحال موته دون إتمامها.
وفاته
توفي في بغداد برحبة يعقوب يوم السبت ليومين بقيا من شوال سنة ثلاثمائة وعشرٍ للهجرة، ودفن يوم الأحد في داره. وقد قال الخطيب في تاريخ بغداد: «واجتمع على جنازته من لا يحصي عددهم إلا الله، وصُلِّيَ على قبره عدة شهور ليلًا ونهارًا، ورثاه خلق كثير من أهل الدين والأدب» ومن ذلك قول ابن الأعرابي فيه:
حدث مفظع وخطب جليل دق عن مثله اصطبار الصبور
قام ناعي العلوم أجمع لما قام ناعي محمد بن جرير
وقال فيه ابن دريد:
إن المنية لم تتلف به رجلًا بل أتلفت عَلَمًا للدين منصوبا
كان الزمان به تصفو مشاربه والآن أصبح بالتكدير مقطوبا
كلا وأيامه الغر التي جعلت للعلم نورًا وللتقوى محاريبا
جزى الله الإمام محمد بن جرير الطبري عن أمة محمد خيرًا.