ترجمته
ابن سمعون هو أبو الحسين محمد بن أحمد بن سمعون، أحد المشايخ الصوفية في بغداد الذين شهروا بالكرامات والزهد والورع ورفض الدنيا وحب الآخرة.
مناقبه
يحكي ابن عساكر الدمشقي في كتابه «تبيين كذب المفتري» عن الصوفي الواعظ صاحب الكرامات أبي الحسين بن سمعون البغدادي أنه قال لأمه يومًا: أحب أن أحج، فقالت له: كيف تحجُّ وما معك نفقة، ولا لي ما أنفقه، إنما عيشنا من أجرة ما تنسخه. وغلب عليها النوم فنامت، ولما انتبهت قالت له: يا ولدي حُجَّ، فقال: منعتِ قبل النوم، وأذنِت بعده قالت: رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم وقال لي: دعيه يحج، فباع من دفاتره ما له قيمة ودفع إليها نفقة وخرج مع الحجاج. قال: فبقيت عريانًا ووجدت مع رجل عباءة كانت على عدل فقلت له: هَبْ لي هذه العباءة أستر نفسي بها، فأعطانيها. وكنت إذا غلب علي الجوع ووجدت قومًا يأكلون وقفت أنظر إليهم فيدفعون إليَّ الكسرة فأقتنع بها ذلك اليوم. ولما وصلت إلى مكة غسلت العباءة فأحرمت بها. ودعوت الله يومًا: «اللهم ارزقني معيشة أستغني بها عن سؤال الناس»، فسمعت قائلًا يقول: «اللهم ارزقه عيشًا بلا معيشة»، فالتفتُّ فلم أرَ أحدًا، فأعدت القول فأعاد الدعاء، فأعدت الثالثة فأعاد.
ولما عاد ابن سمعون إلى بغداد كان الخليفة قد أراد إخراج جارية من جواريه من الدار، فقال: اطلبوا رجلاً مستورًا يصلح أن تُزَوَّج هذه الجارية به، فقيل له: قد وصل ابن سمعون من الحج وهو يصلح لها، فاستصوب الخليفة قوله. وزُوّج ابن سمعون بالجارية ونقل الخليفة معها من المال والثياب والجواهر ما تحمل الملوك.
قال ابن عساكر: فكان ابن سمعون يجلس على الكرسي للوعظ فيقول: أيها الناس خرجتُ حاجًا فكان من حالي كذا وكذا، ويشرح حاله جميعها.
ومن جملة هذه الخوارق ما ذكره أبو القاسم علي بن إبراهيم الخطيب أن الشيخ خرج من المدينة المنورة قاصدًا بيت المقدس وحمل معه تمرًا صيحانيًا، فلما وصل إلى بيت المقدس ترك التمر مع غيره من الطعام في الموضع الذي كان يأوي إليه، ثم اشتهت نفسه أكل الرُطَب، فلامها وقال: من أين لنا في هذا الموضع بالرطب فلما كان وقت الإفطار عمد إلى التمر ليأكل منه فوجده رطبًا، فلم يأكل منه شيئًا، ثم عاد إليه عشية فوجده تمرًا على حالته الأولى فأكل منه.
ويروى أيضًا عن كراماته أن أبا الفتح القواس قد أصابته ضائقة، قال: فلم أجد في البيت غير قوس لي وخفين كنت ألبسهما، فأصبحت وقد عزمت على بيعهما. وقلت في نفسي: أحضر مجلس ابن سمعون ثم أنصرف فأبيع الخفين والقوس، فحضرت المجلس. ولما أردت الانصراف نادى أبو الحسين: يا أبا الفتح لا تبع الخفين، ولا تبع القوس، فإن الله سيأتيك برزق من عنده.
ومن عجائبه أن أبا الفتح القواس غشيه النعاس ونام في المجلس فتوقف ابن سمعون عن الكلام ساعة حتى استيقظ أبو الفتح، فقال له: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومك قال: نعم، قال ابن سمعون: لذلك أمسكتُ عن الكلام خوفًا من أن تنزعج وتنقطع.
ومن أخباره أن الخليفة الطائع لله قد قيل له إن أبا الحسين ينتقص الإمام عليًا رضي الله عنه، فأرسل مولى له إليه يستدعيه إلى دار الخلافة، فدخل وسلم على الخليفة ثم أخذ في وعظه، فأول ما ابتدأ به أن قال: روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه… وذكر خبرًا عنه وأحاديث كثيرة، ثم عاد فقال: روي عن أمير المؤمنين… وروى أحاديث وأخبارًا، ولم يزل على وعظه هذا حتى بكى الطائع حتى سُمِع شهيقه وابتل منديل بين يديه بدموعه. ولما انصرف ابن سمعون سأل مولى الطائع: يا مولاي رأيتك على صفة من شدة الغضب على ابن سمعون ثم انتقلت عن تلك الصفة عند حضوره فما السبب؟ فقال الخليفة: رُفع إليَّ عنه أنه ينتقص علي ابن أبي طالب رضي الله عنه، فأحببت أن أتيقن ذلك لأقابله عليه إن صح ذلك منه، فلما حضر بين يدي افتتح كلامه بذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأعاد وأبدى في ذلك. وقد كان له مندوحة في الرواية عن غيره وترك الابتداء به، فعلمتُ أنه وُفِّقَ لما تزول به عنه الظنة وتبرأ ساحته عندي، ولعله كُوشِفَ بذلك.
ثناء العلماء والمؤرخين عليه
ممن أثنى عليه من المؤرخين ابن خلِّكان في الوفيات حيث قال فيه: «كان وحيد دهره في الكلام على الخواطر وحسن الوعظ وحلاوة الإشارة ولطف العبارة. أدرك جماعة من جُلَّة المشايخ وروى عنهم، منهم الشيخ أبو بكر الشبلي».
وقال فيه ابن عساكر في تبيينه ما نصه: «له لسان عالٍ في هذه العلوم، يعني علوم أهل التصوف. وهو لسان الوقت والمرجوع إليه في ءاداب الظاهر يذهب إلى أسدّ المذاهب. وهو إمام المتكلمين على هذا في الوقت».
ويذكر ابن عساكر عن أبي بكر الأصبهاني وكان خادم الشبلي أنه قال: «كنت بين يدي الشبلي في الجامع يوم جمعة فدخل أبو الحسين بن سمعون وهو صبي على رأسه قلنسوة بشفاشك مطلّس بفوطة، فجاز علينا وما سَلَّم، فنظر الشبلي إلى ظهره وقال: يا أبا بكر أتدري أَيْشٍ لله في هذا الفتى من الذخائر». ويذكر ابن عساكر أيضًا عن أبي النجيب الأرموي أن القاضي أبا بكر الأشعري وأبا حامد الغزالي كانا يقبلان يد ابن سمعون إذا جاءاه. وروى عن القاضي أبي بكر أنه كان يقول: ربما خَفِيَ عليَّ من كلامه بعض الشىء لدقته.
ومن كلامه قوله وهو على الكرسي في مجلس وعظه: «سبحان من أنطق باللحم وبَصَّرَ بالشحم وأسمع بالعظم، إشارة إلى اللسان والعين والأذن، وهذه من لطائف الإشارات».
ومما قاله السلمي فيه: «أبو الحسين بن سمعون الذي هو لسان الوقت والمُعَبِّر عن الأحوال بألطف بيان، مع ما يرجع إليه صحة الاعتقاد وصحبة الفقراء».
ويقول ابن خلكان: «وكان لأهل العراق فيه اعتقاد كثير، ولهم به غرام شديد. وإياه عنى الحريري صاحب المقامات في المقامة الحادية والعشرين وهي الرازيَّة بقوله في أوائلها: رأيت ذا بكرة، زمرة إثر زمرة، وهم منتشرون انتشار الجراد، ومُستَنُّون استنانَ الجياد، ومتواضعون واعظًا يقصدونه ويُحِلُّون ابنَ سمعون دونه»، وقال ابن خلكان بعد هذا: «ولم يأتِ بعده في الوعاظ مثله».
وفاته
قال بعض المؤرخين إنه توفي يوم الجمعة منتصف ذي القعدة من سنة ثلاثمائة وسبع وثمانين للهجرة، وقال بعض إنه توفي في ذي الحجة. ودفن في داره بدرب العتابيين.
ولم يزل هناك حتى نقل يوم الخميس الحادي عشر من رجب سنة أربعمائة وست وأربعين للهجرة، ودفن بباب حرب. وقيل إن أكفانه لم تكن قد بليت بعد.
رحمه الله رحمة واسعة ونفعنا به وبأمثاله.