ترجمته
هو القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم الباقلاني، ذكر صاحب «معجم المؤلفين» أنه ولد سنة ثلاثمائة وثمان وثلاثين هجرية. وهو من أهل البصرة سافر إلى بغداد وسكن فيها.
سمع الحديث في بغداد من أبي بكر بن مالك القطيعي وأبي محمد بن ماسي، وأبي أحمد الحسين بن علي النيسابوري، وأخذ علم الكلام عن أبي عبد الله محمد بن أحمد ابن مجاهد الطائي صاحب الأشعري، وأخذ عنه أئمة منهم أبو ذر الهروي وأبو عمران الفاسي والقاضي أبو محمد بن نصر.
مناقبه
ويروى أن الهروي سئل: من أين تمذهبت بمذهب مالك ورأي الأشعري مع أنك هروي، فقال: قدمت بغداد وكنت ماشيًا مع الدارقطني فلقينا أبو بكر بن الطيب فلزمه الدارقطني بعدما قبَّل وجهه وعينه، فلما افترقا قلت من هذا، قال: إمام المسلمين والذاب عن الدين القاضي أبو بكر، فمن ذلك الوقت ترددت عليه وتمذهبت بمذهبه.
وعن فطانته وسعة علومه يروي صاحب «وفيات الأعيان» أنه جرى يومًا بينه وبين أبي سعيد الهاروني مناظرة، فأكثر القاضي أبو بكر الكلام ووسع العبارة وزاد في الإسهاب، ثم التفت إلى الحاضرين وقال: اشهدوا عليَّ أنه إن أعاد ما قلت لا غير لم أطالبه بالجواب، فقال الهاروني: اشهدوا عليَّ أنه إن أعاد كلام نفسه سلمت له ما قال.
وذكر ابن عساكر الدمشقي في «تبيين كذب المفتري» سعة علمه فقال: «قال أبو الفرج: وسمعت أبا بكر الخوارزمي يقول: كل مصنِف ببغداد إنما ينقل من كتب الناس إلى تصانيفه سوى القاضي أبي بكر، فإن صدره يحوي علمه وعلم الناس». وقال فيه الذهبي في السير ما نصه: «وسمعت علي بن محمد الحربي يقول: جميع ما كان يذكر أبو بكر بن الباقلاني من الخلاف بين الناس صنفه من حفظه، وما صنف أحد خلافًا إلا احتاج إلى أن يطالع كتب المخالفين، سوى ابن الباقلاني» ا.هـ.
ومن كلام الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» عنه قوله: «وكان كل ليلة إذا صلى العشاء وقضى ورده وضع الدواة بين يديه وكتب خمسًا وثلاثين ورقة تصنيفًا من حفظه، فإذا صلى الفجر دفع إلى بعض أصحابه ما صنفه في ليلة وأمره بقراءته عليه وأملى عليه الزيادات فيه» ا.هـ.
أقوال المؤرخين والعلماء فيه
منهم ابن عساكر الدمشقي الذي مدحه في «تبيين كذب المفتري» وبيَّن مآثره قائلاً: «فأما علم الكلام فكان أعرف الناس به وأحسنهم خاطرًا، أجودهم لسانًا وأوضحهم بيانًا وأصحهم عبارة» وقال: «أخبرني الشيخ أبو القاسم بن نصر في كتابه إليَّ عن القاضي أبي المعالي بن عبد الملك قال: ذكر الشيخ الإمام أبو حاتم محمود بن الحسين القزويني أن ما كان يضمره القاضي الإمام أبو بكر الأشعري رضي الله عنه من الورع والديانة والزهد والصيانة أضعاف ما كان يُظهره». وينقل الحافظ ابن عساكر في الكتاب عن الشيخ أبي الحسن التميمي الحنبلي قوله فيه: «تمسكوا بهذا الرجل فليس للسُّنَّة عنه غنى أبدًا».
ومما قاله الذهبي في «سير أعلام النبلاء» عنه ما نصه: «الإمام العلَّامة، أوحد المتكلمين، مقدَّم الأصوليين، القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر ابن القاسم البصري ثم البغدادي، ابن الباقلاني صاحب التصانيف، وكان يضرب المثل بفهمه وذكائه». ومما قاله أيضًا: «وقد ذكر القاضي عياض في «طبقات المالكية» فقال: هو الملقب بسيف السنة ولسان الأمة، المتكلم على لسان أهل الحديث وطريق أبي الحسن، وإليه انتهت رئاسة المالكية في وقته».
ومن مآثره ما ذكره ابن عساكر في «تبيين كذب المفتري» والخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» وكثيرون غيرهم من أنه أُرسل من قبل الملك عضد الدولة إلى ملك الروم، فلما ورد المدينة عُرّف الملك خبره ومكانته من العلم وموضعه وكان هذا الملك يعلم أن المسلمين لا ينحنون أمام مخلوق، فرغب في أن يجعله يركع له إذ كان من عادة رعيته أن تقبل الأرض بين يديه فأمر بأن يوضع سريره الذي يجلس عليه وراء باب لطيف لا يقدر أحد أن يدخل منه إلا راكعًا، ليدخل منه الإمام الباقلاني على هذا النحو، فلما وضع سريره في ذلك الموضع أمر بإدخال الباقلاني من الباب، فسار القاضي حتى وصل إلى المكان، فلما رءاه تفكر فيه ثم فطن للأمر فأدار ظهره وحنا رأسه راكعًا ودخل من الباب وهو يمشي إلى الوراء مستقبلًا الملك بظهره حتى صار بين يديه، ثم رفع رأسه ونصب ظهره وأدار بوجهه حينئذٍ إلى الملك فعجب من فطنته ووقعت هيبته في نفسه.
مؤلفاته
وقد كثرت تصانيفه في أنواع العلوم ولا سيما الردود على الجهمية والخوارج والكرامية وغيرهم من أهل التحريف، ومن هذه المصنفات: «كيفية الاستشهاد في الرد على أهل الجحد والعناد»، «الأصول الكبير في الفقه»، «مناقب الأئمة»، «الملل والنحل»، «هداية المسترشدين»، «نقض النقض»، «الفرق بين معجزات النبيين صلى الله عليه وسلم وكرامات الصالحين»، «الانتصار»، «التقريب والإرشاد»، «دقائق الكلام»، «الكسب»، «التبصرة»، «تمهيد الدلائل وتلخيص الأوائل»، «إعجاز القرءان»، و«الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به»، بالإضافة إلى العديد من المؤلفات النفيسة القيمة.
عقيدته
لما كان رحمه الله متكلمًا أشعريًا، علمنا أنه كان يدافع عن عقيدة تنزيه الله عن المكان والحد أي الحجم والشبيه، بدليل ما جاء في كتاب «الإنصاف» تحت عنوان «مسألة في إحالة اتصاف الباري بسمات النقص في حقه جلت صفاته»، فقد قال ما نصه: «ويجب أن يُعلم أن كل ما يدل على الحدوث أو على سمة النقص فالرب تعالى يتقدس عنه، فمن ذلك أنه تعالى متقدس عن الاختصاص بالجهات والاتصاف بصفات المحدثات، وكذلك لا يوصف بالتحول والانتقال، ولا القيام ولا القعود، لقوله تعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾(سورة الشورى/الآية11)». ويقول في شأن الاستواء: «ونقول استواؤه لا يشبه استواء الخلق، ولا نقول إن العرش له قرار ولا مكان، لأن الله تعالى كان ولا مكان، فلما خلق المكان لم يتغير عما كان».
ومن كلامه في تنزيه الله عن الجوارح قوله في الصحيفة سبع وثلاثين من «الإنصاف»: «وأن يعلم مع كونه تعالى سميعًا بصيرًا، أنه مدرك لجميع المدرَكات» إلى أن يقول: «وأنه مع ذلك ليس بذي جوارح وحواس توجد بها هذه الإدراكات، فتعالى الله عن الجوارح والآلات».
ومن كتاب «تمهيد الأوائل» يقول القاضي رحمه الله: «فإن قال قائل: أين هو قيل له: الأين سؤال عن المكان، وليس هو ممن يجوز أن يحويه مكان ولا تحيط به أقطار».
ومن أقواله رضي الله عنه في «الإنصاف» ما نصه: «وقال جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: «من زعم أن الله تعالى في شىء أو من شىءأو على شىء فقد أشرك، لأنه لو كان على شىء لكان محمولاً ، ولو كان في شىء لكان محصورًا، ولو كان من شىء لكان مُحْدَثًا (أي مخلوقًا) والله يتعالى عن جميع ذلك».
وفاته
قال صاحب الوفيات ما نصه: «وتوفي القاضي أبو بكر المذكور ءاخر يوم السبت ودفن يوم الأحد لسبع بقين من ذي القعدة سنة ثلاث وأربعمائة ببغداد، رحمه الله، وصلى عليه ابنه الحسن ودفنه في داره بدرب المجوس، ثم نقل بعد ذلك فدفن في مقبرة باب حرب» ورثاه بعض شعراء عصره بقوله:
انظر إلى جبل تمشي الرجال به وانظر إلى القبر ما يحوي من الصَلَفِ
وانظر إلى صارم الإسلام منغمدًا وانظر إلى درة الإسلام في الصدفِ
وقال ابن عساكر ما نصه: «نُقل إلى باب حرب ودفــن في تربة بقرب قبر الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه وأرضاه، ومنقوش على علم عند رأس تربته ما هذه نسخته: هذا قبر القاضي الإمام السعيد فخر الأمة ولسان الملة وسيف السنة عماد الدين ناصر الإسلام أبي بكر محمد بن الطيب البصري قدس الله روحه وألحقه بنبيه محمد صلوات الله عليه وسلامه، ويزار ويُستسقى ويُتبرك به».
وفي الكتاب عينه يروي ابن عساكر أن الشيخ أبا الفضل التميمي حضر يوم وفاته العزاء مع إخوته وأصحابه وأمر أن ينادى بين يدي جنازته: هذا ناصر السنة والدين، هذا إمام المسلمين، هذا الذي كان يذب عن الشريعة ألسنة المخالفين، هذا الذي صنف سبعين ألف ورقة ردًا على الملحدين. وقعد للعزاء مع أصحابه ثلاثة أيام فلم يبرح، وكان يزور تربته كل يوم جمعة في الدار.
نسأل الله تعالى أن يقيض للمسلمين رجالًا أفذاذًا كمثل القاضي الباقلاني رحمه الله.