ترجمته
هو قَوَّام الدين أبو علي الحسن بن علي بن إسحـٰـق بن العباس نظام المُلك الطوسي، ولد في بلدة صغيرة من نواحي طوس تسمى نوقان سنة أربعمائة وثمان للهجرة، وكان من أولاد الدهاقين (الفلاحين) الذين يعملون في البساتين، حفظ القرءان واشتغل في الفقه منذ صغره على مذهب الإمام الشافعي.
سمع الحديث بأصبهان من محمد بن علي بن مهريزد الأديب، وأبي منصور شجاع ابن علي بن شجاع، وسمع بنيسابور من الأستاذ أبي القاسم القشيري، وببغداد من أبي الخطاب بن البطر وغيره، وجلس للإملاء ببغداد في مجلسين أحدهما بجامع المهدي بالرصافة، والآخر بمدرسته. وكان يقول في ذلك: إني لست أهلًا لما أتولاه من الإملاء ، لكني أريد أن أربط نفسي على قطار نقلة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما ترك أباه رحل إلى غزنة حيث خدم في الديوان السلطاني، ثم ءال به الأمر إلى أن خدم أبا علي بن شاذان وزير السلطان ألبَ أرسلان الذي أحبه ورأى منه العفة والأمانة والتقوى، وأوصى به السلطان عند وفاته، فقربه السلطان إليه ونصبه وزيرًا مكانه. ولما مات ألب أرسلان سعى نظام الملك في توطيد المملكة لولده ملكشاه فنجح في ذلك، وصار الأمر كله للوزير وليس للسلطان إلا اللباس والصيد. وبقي الأمر عشرين سنة أمضاها ما بين تدبير لشؤون المملكة وبناء المدارس وخدمة العلماء وفتح بلاد وقضاء حوائج الرعية من أصحاب الفاقات والمُتَظَلِّمين.
مناقـبه
ذكر ابن خلكان أن مجلس الوزير كان عامرًا بالفقهاء والصوفية، وأنه كان كثير الإنعام على الصوفية. ولما سئل عن سبب ذلك قال: أتاني صوفي وأنا في خدمة بعض الأمراء، فوعظني وقال: اخدم من تنفعك خدمته ولا تشتغل بمن تأكله الكلاب غدًا، فلم أعلم معنى قوله حتى شرب ذلك الأمير مُسْكرًا وخرج في الليل، وكانت له كلاب كالسباع تفترس الغرباء، فوثبت عليه ومزقته، فعلمتُ أن الرجل كوشف بذلك، فأنا أخدم الصوفية لعلي أظفر بمثل ذلك.
وكثرت محاسن أفعاله وعَمَّ عدله حتى تناقلت ذلك الألسنة، وصار بابه محط الرحال، وأخذ في بناء المساجد في البلاد، وبنى المدارس في بغداد وبلخ ونيسابور وهراة وأصبهان والبصرة ومرو وءامل طبرستان والموصل، وكثرت البيمارستانات (المستشفيات) التي بناها للمرضى.
هذا وقد غزا ففتح عدة بلاد من ديار بكر وربيعة والجزيرة وحلب ومنبج وبلاد ما وراء النهر.
ومن مناقبه أنه ما توضأ إلا وأتى بنوافل الوضوء، وكان لا يقرأ القرءان مستندًا إعظامًا له، وكان يستصحب المصحف معه أينما توجه، وإذا أذن المؤذن أمسك عن كل شغل هو فيه وأجابه، وكان يصوم كل اثنين وخميس، ولا يمنع أحدًا من الدخول عليه في وقت الطعام ولا غيره، فقد ذكر تاج الدين السبكي أن امرأة دخلت عليه وهو قاعد للطعام فزجرها بعض الحُجَّاب، فالتفت الوزير إليه وقال له: إنما أريدكَ وأمثالَك لإيصال مثل هذه، ثم أدخلها عليه ونظر في حاجتها.
وهو أول مَنْ فَرَّقَ الإقطاعات على الجند، فكان يوزع لكل مُقْطَعٍ قرية أو نحوها كي لا تكون الأرض المقتطعة شاسعة بحيث يحدث عجز في عمارتها، فكان ذلك سببًا في عمارة العديد من البلدان وكثرة غلاتها.
خُلـقُه
لقد اشتهر الوزير نظام الملك بكثرة الحِلم والإغضاء، فمما يروي عنه تاج الدين السبكي أن بعض أصحاب الحوائج قد رمى إليه رقعة ليوقعها، فأتت على دواته فأوقعتها وكان بها مداد كثير، فوقع المداد على عمامة الوزير وثيابه فاسودت، فلم يغضب لذلك ولم يتغير، فأخذ الرقعة ووقع عليها فتعجب الحاضرون من ذلك أشد العجب.
ومما يظهر شدة تواضعه على ما به من الملك والسلطان، حوادث كثيرة منها ما حدث معه حين دعا إلى مأدبته عددًا من الأعيان والفقراء، وكان من بينهم رجل من الأعيان يدعى العميد خليفة، فجلس إلى جانبه رجل فقير مقطوع اليد اليسرى، فتنزه العميد من مؤاكلة هذا الفقير الذي يأكل بيساره، فقال الوزير نظام الملك للفقير: إن العميد رجل يستنكف عن مؤاكلتك، فتقدم إليَّ، فأجلسه إلى جانبه وجعل يؤاكله.
ثناء العلماء عليه
لما جرى في الآفاق ذكره وصيته ومآثره ومكارمه، مدحه الكثيرون ممن عاصره أو جاء بعده، من هؤلاء صاحب «طبقات الشافعية الكبرى» تاج الدين السبكي الذي قال في معرض ترجمته إياه: «الوزير الكبير العالم العادل أبو علي الملقب نظام المُلك، وزير غالى الملوك في سمعتها وغالَبَ الضراغم، وكانت له النصرة مع شدة منعتها، وضاهى الخلفاء في عطائها وباهى الفراقد كأنه فوق سمائها، ملك طائفة الفقهاء بإحسانه، وسلك في سبيل البر معهم سبيلًا لم يعهد قبل زمانه. هو أشهر من بنى لهم المدارس، وشيد أركانهم. لولاه خيف أن يكون كالطلل الدارس… طمس ذكره مَنْ كنا نسمع في المكارم من الملوك خبره، وغرس في القلوب شجرات إحسانه المثمرة، دولته كلها فضل وأيامه جميعها عدل، ووقته وابل مغدق، ومجلسه بجماعة العلماء مصباح مشرق…».
وفي خطبة «العُباب» لإمام الحرمين الجويني في مدح الوزير كلام عذب جميل جاء فيه: «ومؤيد الدين والدنيا، ملاذ الأمم، مستخدم للسيف والقلم، ومن ظَلَّ ظِلُّ الملك بيُمْنِ مساعيه مدودًا، ولواء النصر معقودًا… وتحصنت المملكة بنصله، وتحسنت الدنيا بإفضاله وفضله، وعَمَّ بره ءافاق البلاد، ونفى الغي عنها بالرشاد، وجلى ظلامَ الظلم عدلُهْ، وكسر قفار الفقر بذله، وكانت خطة الإسلام شاغرة وأفواه الخطوب فيها فاغرة، فجمع الله برأيه الثاقب شملها…».
أما أبو الوفاء ابن عقيل فكان من جملة من بالغ في مدحه والثناء عليه فقال في «الفنون» ما نصه: «أبهرت العقول سيرته جودًا وكرمًا وعدلاً، وأحيا لمعالم الدين بناء المدارس، ووقف الوقوف ونعش من العلم وأهله ما كان خاملًا مهملًا في أيام مَنْ قبله، وفتح طريق الحج وعَمَرَهُ وعَمَرَ الحرمين واستقام الحجيج، وابتاع الكتب بأوفر الأثمان وأدار الجرايات للخُزَّان، وكانت سوق العلم في أيامه قائمة والنعم على أهله دائرة».
وفــاته
بلغ الوزير الصالح نظام المُلْك الطوسي من الزهد والتقوى وأعمال البر وحسن الخُلُق مبلغًا عظيمًا جعل المسلمين عامتهم وعلماءهم وصوفيتهم يحبونه ويعظمونه ويُجِلُّونه، فكان ذلك سببًا في أن حَسَدَهُ السلطان ملكشاه بن ألبَ أرسلان السلجوقي وحاول غير مرة أن يُقيله من منصب الوزارة، ولكن قوة الوزير وهيبته وتقواه وكثرة مناصريه حالت دون ذلك، حتى كانت ليلة العاشر من شهر رمضان سنة أربعمائة وخمس وثمانين للهجرة، وهي الليلة التي كيد له فيها فأُرسل إليه غلام ديلمي، فدنا منه حتى ضربه بسكين في صدره، فحُمل إلى مضرِبه فمات شهيدًا سعيدًا حميدًا، وعَمَّر دار ءاخرته بما ادخره من تقوى الله والإعراض عن ملذات الدنيا وزخرفها.