ترجمته
هو السلطان الملك المعظم مظفر الدين أبو سعيد كوكبري بن علي بن بكتكين ابن محمد التركماني، أحد الملوك الذين كان ملكهم عزًا للإسلام والمسلمين، وكان له أعمال جليلة وءاثار حسنة منها أنه أول من احتفل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يوزع فيه الأعطيات والهبات على المسلمين إظهارًا لفرحه بنبي ءاخر الزمان سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
مَلَكَ والده زين الدين علي كوجك إربل، وكان رجلاً شهمًا شجاعًا مهيبًا، تملّكَ بلادًا كثيرة ثم وهبها لأولاد صاحب الموصل، توفي سنة ثلاث وستين وخمسمائة، وله أوقاف وأعمال بر كثيرة ومدرسة في الموصل.
ولد الملك المظفر في إربل وهي قلعة حصينة ومدينة كبيرة من أعمال الموصل تبعد عنها مسيرة يومين ليلة السابع والعشرين من محرم سنة خمسمائة وتسع وأربعين للهجرة وتملك إربل بعد وفاة والده وهو مراهق كان له أربع عشرة سنة، وكان أتابكه مجاهد الدين قيماز، فعمل عليه قيماز وكتب محضرًا بأنه لا يصلح للملك وقبض عليه وملك أخاه زين الدين يوسف، فتوجه مظفر الدين إلى بغداد فما التفتوا إليه.
ثم قدم الموصل على صاحبها سيف الدين غازي بن مودود، فأقطعه حرّان، فبقي بها مُدَيْدَة، ثم التحق بخدمة السلطان صلاح الدين وغزا معه فأحبه وزاده «الرّها» وزوجه بأخته ربيعة، وأبان عن شجاعة يوم حطين، وحصل أن وفد أخوه صاحب إربل على صلاح الدين فمرض ومات، فأعطاه السلطان صلاح الدين إربل وشهرزور وأخذ منه حران والرّها.
صفاته وأخلاقه
كان مظفر الدين من أكثر الملوك تدينًا وأجودهم وأكثرهم برًا، وكان عالـمًا تقيًا شجاعًا. قال فيه ابن خلكان: «وأما سيرته فكان له في فعل الخير عجائب لم نسمع أن أحدًا فعل في ذلك مثل ما فعله».
وكان يحب الصدقة وكان له في كل يوم قناطير مقنطرة من الخبز يفرقها على المحاويج في عدة مواضع في البلد، وإذا نزل من الركوب يكون قد اجتمع جمع كثير عند الدار فيدخلهم إليه ويدفع لكل واحد كسوة على قدر الفصل من الصيف والشتاء ومعها شىء من الذهب، وكان لا يتعاطى المنكر ولا يمكّنُ من إدخاله البلد.
وذكر ابن خلكان عنه أيضًا: «أنه كان متواضعًا، خيرًا يحب الفقهاء والمحدثين وربما أعطى الشعراء، وما نُقل أنه انهزم في حرب».
مآثره
كان للملك المظفر رحمه الله ءاثار حسنة، فقد بنى دارًا للنساء الأرامل ودارًا للأيتام ودارًا للضعفاء، ودارًا للملاقيط رتّب بها جماعة من المراضع، فكان كل مولود يلتقط يُحمل إليهن فيرضعنه.
وكان رحمه الله يدخل إلى «البيمارستان» ويقف على كل مريض ويسأله عن مبيته وكيفية حاله وما يشتهيه، وكان له دار مضيف يدخل إليها كل قادم على البلد من فقيه وفقير وغيرهما، وإذا عزم الإنسان على السفر أعطاه نفقة تليق بمثله.
وكان يُسيّر في كل سنة دفعتين من جماعة من أصحابه وأمنائه إلى بلاد الساحل ومعهم جملة مستكثرة من المال يُفَكّ بها أسرى المسلمين من أيدي الكفار.
وله بمكة ءاثار جميلة فهو أول من أجرى الماء إلى جبل عرفات وعمل بالجبل مصانع للماء، وهو الذي عمّر الجامع المظفري بسفح قاسيون، كما ذكر ذلك السيوطي في «الحاوي للفتاوى».
قال ابن الساعي «طالت عليه مداراة أولاد العادل، فأخذ مفاتيح إربل وقلاعها وسلّم ذلك إلى المستنصر في أول سنة ثمان وعشرين، فاحتفلوا له، واجتمع بالخليفة وأكرمه وقلّده سيفين ورايات وخلعًا وستين ألف دينار ومن ءاثاره الحسنة أيضًا أنه أول من أحدث الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم وجمع لهذا كثيرًا من العلماء، فيهم من أهل الحديث والصوفية الصادقين، فاستحسن ذلك العمل العلماء في مشارق الأرض ومغاربها كالحافظ أحمد بن حجر العسقلاني وتلميذه الحافظ السخاوي، وكذلك الحافظ السيوطي.
عمل المولد
وأما احتفال الملك المظفر بمولد النبي صلى الله عليه وسلم فإن الوصف يقصر عن الإحاطة، فكان يعمله في كل سنة، مرة في الثامن من شهر ربيع الأول ومرة في الثاني عشر لأجل الاختلاف الذي فيه، فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم شيئًا كثيرًا يزيد على الوصف وزفّها بجميع ما عنده من الطبول حتى يأتي بها الميدان، ثم يشرعون في نحرها وينصبون القدور ويطبخون الألوان المختلفة.
وقيل إن الخلق كانوا يقصدونه في المولد من العراق والجزيرة وكنت تنصب قباب خشب له ولأمرائه وتزيّن، وفيها جُوَق المدائح والنوبات، وينزل كل يوم عند العصر فيقف على كل قبة ويتفرج، ويفعل ذلك أيامًا، ويتكلم الوعاظ في الميدان.
وكان ينفق أموالاً جزيلة، وقد جمع له ابن دِحية «كتاب المولد» فأعطاه ألف دينار.
قال ابن شهبه في «تاريخ الإسلام» بعد كلام طويل وثناء جميل: «قال جماعة من أهل إربل: كانت نفقته على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار، وعلى الأسرى مائتين ألف دينار، وعلى دار المضيف مائة ألف دينار، وعلى الحرمين والسبيل وعرفات ثلاثين ألف دينار، غير الصدقة في رمضان بقلعة إربل».
وذكر ذلك أيضًا سبط ابن الجوزي في «مرءاة الزمان» فقال: «كان مظفر الدين ينفق في السنة على المولد مائة ألف دينار، وعلى الخانقاه مائتي ألف دينار، وعلى دار المضيف مائة ألف، وقال من حضر المولد مرة: عددت على سماطه مائة فرس قشلميش. وخمسة ءالاف رأس شوي، وعشرة ءالاف دجاجة، ومائة ألف زُبدية، وثلاثين ألف صحن حلواء».
وفاته
قال ابن خلكان: «مات ليلة الجمعة في الرابع عشر من رمضان سنة ثلاثين وستمائة، وحُمل في نعش مع الحجاج إلى مكة، وكان قد أعد قبة تحت جبل يدفن فيها، فاتفق أن الوفد رجعوا تلك السنة لعدم وجود الماء فدفن بالكوفة رحمه الله تعالى عن عمر اثنتين وثمانين سنة».
إنه أحد الملوك الأتقياء الأنقياء الأجواد، ابتدع الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم إظهارًا لفضله، فكان ممن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سنّ في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده، لا ينقص من أجورهم شىء»… الحديث
رحم الله الملك المظفر ونفعنا به وبأمثاله.