ترجمته
هو أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن أحمد العسقلاني الأصل، المصري الكناني المولد، الشافعي المذهب، المعروف بابن حجر كأسلافه. وهذه نسبة إلى ءال حجر، وهم قوم يسكنون الجنوب الآخر على بلاد الجريد وأرضهم قابس أي ببلاد المغرب وأما شهاب الدين فلقب له، على المعتاد في عصره، وأبو الفضل كنيته.
ولد بمصر العتيقة سنة سبعمائة وثلاث وسبعين للهجرة، وتوفي أبوه سنة سبعمائة وسبع وسبعين للهجرة، وكانت أمه توفيت قبل ذلك فنشأ يتيمًا، وكفله وصيه رضي الدين أبو بكر الخروبي، كبير التجار بمصر.
طلبه للعلم
ولما بلغ سنيه الخمس أُدخل الكُتاب، فحفظ القرءان وهو ابن تسع، على الشيخ صدر الدين الصفتي، ثم حفظ «العمدة» و«الحاوي» في الفقه، وألفية شيخه زين الدين العراقي في علم الحديث، و«مختصر ابن الحاجب» في الأصول، و«ملحة الإعراب» لأبي محمد القاسم بن علي الحريري البصري في النحو. ثم انتقل إلى مكة حاجًا سنة سبعمائة وأربع وثمانين للهجرة فقرأ على الحافظ أبي حامد محمد بن ظهيرة وعلى العفيف النشاوري.
قرأ العربية على شمس الدين محمد الغماري، والأدب والعروض على البدر البشتكي، والفقه على برهان الدين الإبناسي ونور الدين الهيثمي وعلى فقيهي عصره السراج البلقيني والسراج ابن الملقن، وقرأ أكثر الفنون على عز الدين بن جماعة، وكان بحرًا متفننًا في العلوم، حتى إنه كان يقول: «أقرأ في خمسة عشر علمًا لا يعرف علماء عصري أسماءها».
وفي الجملة، فقد كان الشهاب ابن حجر علامة عارفًا بعلوم عصره مع تفرعها ومباينة بعضها لبعض، من نحو تصريف وبلاغة وسائر علوم العربية، وتاريخ وفقه وحديث وقراءات وسائر العلوم النقلية، والعقلية كالحساب وغيره.
وأما علم الحديث الذي تقدمَّ فيه على أقرانه وطارت شهرته، وأجمع معاصروه ومن وليهم على درايته به وسعة اطلاعه ومتانة حفظه، بل على إطلاق لقب «الحافظ» عليه لذلك، فأول شيخ أخذ عنه فيه عفيف الدين النشاوري بمكة كما تقدم، وارتحل في طلبه إلى بيت المقدس ونابلس والرملة وغزة ودمشق، وإلى الاسكندرية وقوص من مصر، وإلى مكة واليمن، ولازم خصوصًا شيخ الحديث الزين العراقي لذلك بالقاهرة.
وقد استكثر الحافظ من الشيوخ وبلغ في هذا العلم ما لم يبلغه أقرانه، فبرع في المعارف الحديثية من سند ومتن وعلل ومصطلح، وفقه علم الرجال فقهًا متينًا، لذلك صنّف فيه ما اعتمده العلماء ووثقوه، حتى غدا يشار إليه ويرتحل لأخذ هذا الفن الجليل عنه.
مشايخه
جمع الحافظ ابن حجر أسماء شيوخه مرتبة على الحروف في كتابه «المجمع المؤسس بالمعجم المفهرس»، وكان ذلك بقَسمه قسمين: الأول في المشايخ الذين أخذ عنهم رواية، والآخر في الذين قرأ عليهم شيئًا على طريق الدراية، وذكر بعضهم في تاريخه «إنباء الغمر بأنباء العمر».
أما أشهر مشايخه ففي علوم العربية: مجد الدين بن يعقوب الفيروزأبادي في اللغة، وبدر الدين البشتكي في الأدب، والغماري في جملة منها.
وفي القراءات: أبو اسـٰـحق إبراهيم بن أحمد التنوخي البعلبكي.
وفي الفقه: سراج الدين البلقيني وسراج الدين بن الملقن.
وفي الحديث: عفيف الدين النشاوري، وزين الدين العراقي، والحافظ أبو هريرة، وبدر الدين بن قوام البالسي، وله من الشيخات فاطمة بنت المُنْجا التنوخية، وفاطمة بنت محمد بن عبد الهادي وأختها عائشة.
مناصبه ووظائفه وتدريسه
وقد تولى ابن حجر التدريس بالإقراء والإملاء في المجالس على طريقة المحدثين، وأفتى، وولي القضاء مرات فدرّس التفسير بالحسنية والمنصورية، والحديث بالبيبرسية والجمالية المستجدة والحسنية والشيخونية والزينبية وهي جميعًا مدارس، سميت بالنسبة إلى الأمراء والأعيان الذين بنوها، وبجامع ابن طولون والقبة المنصورية، وتولى الإسماع بالمحمودية، وتدريس الفقه بالخروبية والشيخونية والصالحية النجمية والمؤيدية، وولي مشيخة البيبرسية، والإفتاء بدار العدل. وكانت خطابة الجامع الأزهر من وظائفه، وخطابة جامع عمرو بن العاص، وأملى الحديث بخانقاه (أي زاوية) بيبرس زهاء عشرين عامًا ثم بدار الحديث الكاملية بالحي المسمى بين القصرين بالقاهرة.
وأما القضاء فقد تقلده في دولة السلطان الأشرف برسباي أولا وكان قد عرض عليه قضاء البلاد الشامية فامتنع. وتولى خزانة المكتبة المحمودية وعمل لها فهرسًا.
وفاته
وفي سنة ثمانمائة واثنتين وخمسين للهجرة أصيب ابن حجر العسقلاني بعلة الإسهال، وبقي كذلك إلى أن توفي ليلة السبت في الثامن عشر من ذي الحجة من السنة المذكورة، وهو بداره بجوار المدرسة المنكوتمرية بالقاهرة، وصُلّي عليه بالرميلة خارج المدينة، وحضر الصلاة عليه السلطان الظاهر جقمق، والخليفة العباسي، وصلى عليه إمامًا علم الدين البلقيني، ثم نقل نعشه إلى القرافة الصغرى، مقابل جامع الديلمي، ودفن قرب الليث بن سعد.
ديوانه
وهو الكتاب الذي جمع فيه قصائده وموشحاته وقسمه سبعة أقسام: الأول هو قسم النبويات وفيه سبع قصائد يمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني قسم الملوكيات وفيه مدح لبعض ملوك عصره، والثالث في الأميريات والصاحبيات، والرابع في الغزل، والخامس ضمنه أغراضًا مختلفة من شكوى ورثاء وحكم وغيرها، والخامس هو قسم الموشحات، والسابع سمي بالمقاطيع، وهي ضرب من الشعر يتألف من بيتين اثنين على بحور الخليل.
ونتوقف عند قسم النبويات لنقتطع بعضًا من روائع مديحه للنبي، ومن ذلك ما قاله في قصيدة أنشدها في رمضان سنة سبعمائة وثمان وتسعين للهجرة وفيها:
ءاثار خير المرسلين بها شفا داء الذنوب لخائف يتوهم
هو رحمة للناس مهداة فيا ويح المعاند إنه لا يُرْحَمُ
نال الأمان المؤمنون به إذا شبَّت وقودًا بالطغاة جهنم
الله أيده فليس عن الهوى في أمره أو نهيه يتكلم
فليحذر المرء المخالف أمره من فتنة أو من عذاب يؤلم
ذو المعجزات الباهرات فسل بها نطق الحصى وبهائمًا قد كُلّموا
حفظت لمولده السماء وحُصّنت فالماردون بشُهبها قد رُجّموا
ومن أشعاره قوله:
ذي المعجزات فكل ذي بصر غدا لصوابها بالعين ذا تصويب
كالشمس ضاءت للأنام وأشرقت إلا عن المكفوف والمحجوب
وانشق بدر التم معجزة له وبه أتاه النصر قبل مغيبِ
نطق الجماد بكفه وبه جرى ماء كما ينصَبُّ من أنبوب
والعين أوردها وجاد بها كما قد ردَّها كالشمس بعد غروب
ولكم مناقب أعجزت عن عَدّها من حافظ واعٍ ومن حَيْسوبِ
يا سيد الرسل الذي منهاجه حاوٍ كمال الفضل والتهذيب
أسرى بجسمك للسماء فبشَّرت أملاكها وحَبَتْكَ بالترحيب
فعلوت ثم دنوتَ ثم بلغت ما لا ينبغي لسواك من تقريب
وخُصِصْتَ فضلًا بالشفاعة في غدٍ ومقامك المحمود والمحبوبِ
والأنبياء وقد رُفِعْتَ جلالة في الحشر تحت لوائك المنصوبِ
ولمناسبة ختمه كتاب«دلائل النبوة» عند الإمام سراج الدين البلقيني أنشد قصيدة مدح فيها النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
ولولا اشتغالي في مدائح أحمد وآثاره ما كان لي عنه شاغل
نبي الهدى المختار من ءال هاشم فعن فخرهم فليقصر المتطاول
خطيب الهدى والسيف والعقل والندى إذا خرست في كل حفل مقاولُ
فقيس إذا ما قيس في الرأي جاهل لديه وقُسٌّ في الفصاحة باقلُ
تنقل في أصلاب قوم تشرّفوا به مثل ما للبدر تلك المنازل
وأرسله الله المهيمن رحمة فليس له في المرسلين مماثل
فما تبلغ الأشعار فيه ومدحه به ناطق نصُّ الكتاب وناقلُ
(قيس المذكور المراد به قيس بن عاصم المِنقري المضروب به المثل في الرأي والحِلم. وقُسٌّ هو الخطيب المشهور في الجاهلية وهو قس بن ساعدة الإيادي. وباقل رجل عربي ضرب به المثل في العيّ العجز عن البيان.)
ومن نظمه في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
تعودت مدحًا في النبي وإنما لكل امرئ من دهره ما تعوَّدا
أبو القاسم المختار من نسل هاشم وأزكى الورى نفسًا وأصلًا ومحتدا
نبي يراه الله أشرف خلقه وأسماه إذ سماه في الذكر أحمدا
فأكرم به عبدًا صفيًا مُمَدَّحًا وأنعم به مولى وفيًا محمدًا
مبيد العدى مولي الندى قامع الردى
مبين الهدى مروي الصدى واسع الجَدا
المراد بالردى في هذا البيت الضلال. والصدى: هو الظمأ، والجدَا: العَطية والهبة.
وكم مذنبٍ وافاه يطلب نجدة تنجيه في الأخرى فأنجى وأنجدا
أيا خير خلق الله دعوة مذنب تَخَوَّفَ من نار الجحيم توقُّدا
له سند عال بمدحك نيّرٌ وبابك أمسى فيه أسنى وأسندا
وأنت الذي جنبتنا طارق الردى وأنت الذي عرَّفْتنا طُرُق الهدى
ولا يُحْسَبُ الحافظ العسقلاني أراد بمدائحه هذه إلا نيل الثواب والأجر من الله تبارك وتعالى، وأن يكون ممن تناله الشفاعة يوم القيامة، فكفى بذلك دليلاً على جواز مدح النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وعلى رد مقولة الجُفاة القُساة الذين يحرمون مدح النبي صلى الله عليه وسلم والاحتفال بمولده والفرح به. وكيف يكون ما استحسنه المجتهدون والعلماء العاملون ورغبوا في فعله عملًا مذمومًا حاشا وكلا.