ترجمته
هو أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجرّاح بن هلال بن أُهَيب بن ضبة بن الحارث ابن فهر بن مالك بن النضر، القُرَشي الفِهري، يجتمع في النسب هو والنبي صلى الله عليه وسلم في فهر، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة الذيـن ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث واحد.
وهو الذي عزم أبو بكر الصديق رضي الله عنه على توليته الخلافة وأشار به يوم السقيفة لكمال أهليته عنده.
روى أحاديث عدة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحَدَّث عنه العرباض بن سارية وجابر بن عبد الله وأبو أمامة الباهلي وسمرة بن جُندب، وأسلم على يده مولى عمر وعبد الرحمن بن غنم وءاخرون. وله في صحيح مسلم حديث واحد.
وهو من السابقين الأولين الذين أسلموا قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم؛ فعن يزيد بن رومان أنه قال: انطلق عثمان بن مظعون وعبيدة بن الحارث وعبد الرحمن بن عوف، وأبو مسلمة بن عبد الأسد وأبو عبيدة بن الجراح حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليهم الإسلام وأنبأهم بشرائعه، فأسلموا في ساعة واحدة.
وشهد بدرًا وأُحُدًا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر ابن إسحق أنه كان ممن هاجر الهجرة الأولى إلى الحبشة.
مناقبه وفضائله
لقد كان أبو عبيدة رضي الله عنه موصوفًا بالصلاح والتقوى والأمانة، فعن أنس ابن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن لكل أمَّة أمينًا، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح».
ومن أخبار أمانته أن ابن أبي شيبة روى بالإسناد عن حذيفة بن اليمان أن رجلين من نجران أتيا الرسول صلى الله عليه وسلم فقالا: ابعث معنا أمينًا حـق أمين، فقـال : «لأبعثَنَّ معكم رجلاً أمينًا حق أمين» فاستشرف لها الناس، فقال : «قم يا أبا عبيدة» فأرسله معهم.
ومما امتدح به الرسول صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه ما رواه الحاكم، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: «ما منكم من أحد إلا لو شئتُ لأخذتُ عليه بعض خُلُقه إلا أبا عُبيدة».
وممن مدحه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ففي طبقات ابن سعد ومستدرك الحاكم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما بلغ سَرْغ، وهي قرية بوادي تبوك بين الحجاز والشام، أُخبر أن بالشام وباء شديدًا، فقال: إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حي، استخلفتُه، فإن سألني الله عز وجل لم استخلفته على أمة محمد قلت: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن لكل أمَّة أمينًا، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح».
وفي كتاب «الزهد» لابن المبارك أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قدم الشام تلقاه الأمراء والعظماء، فقال: أين أخي أبو عبيدة؟ فقالوا: يأتيك الآن، فجاء على ناقة مخطومة بحبل، فسلَّم عليه ثم قال للناس: انصرفوا عنا، فسار معه حتى أتى منزله، فلم يَرَ في بيته إلا سيفه وترسه ورحله، فقال له عمر: لو اتخذت متاعًا، فقال: إن هذا سيُبَلّغُنا المقيل.
وفي رواية أبي داود في سننه أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له: غَيَّرَتنا الدنيا كُلَّنا غيرك يا أبا عُبيدة.
وروي عن مالك بن أنس أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرسل إلى أبي عبيدة بأربعة ءالاف وأربعمائة دينار وقال للرسول: انظر ما يصنع بها فقسَّمها أبو عبيدة بين الناس. ثم أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمثلها إلى معاذ بن جبل فقسَّمها بين الناس، إلا شيئًا قالت له امرأته: نحتاج إليه، فلما أخبر الرسول عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: الحمد لله الذي جعل في الإسلام من يصنع هذا.
ومما ورد أيضًا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الثناء عليه، ما رواه الحافظ أبو نُعيم في «الحلية» وهو أن الفاروق رضي الله عنه قال لأصحابه: تمنَّوا، فقال رجل: أتمنى لو أن لي هذه الدار مملوءة ذهبًا أنفقه في سبيل الله، وقال ءاخر: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤًا وزبرجدًا وجوهرًا أنفقه في سبيل الله وأتصدق، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة رجالا مثل أبي عبيدة بن الجراح.
وأبو عبيدة هو الذي نزع بفمه حلقتَيْ المِغفر اللتين دخلتا في وجنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد، ففي طبقات ابن سعد بالإسناد عن أبي بكر أنه قال: لما كان يوم أُحُد ورُمي رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه حتى دخلت في أُجنتيه (وجنتيه) حلقتان من المِغفر، فأقبلت أسعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنسان قد أقبل من قِبَل المشرق يطير طيرانًا، فإذا أبو عبيدة ابن الجراح قد بدرني فقال: أسألك بالله يا أبا بكر إلا تركتني فأنزعه من وجنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو بكر: فتركته فأخذ أبو عبيدة بثَنيَّة إحدى حلقتي المِغفر فنزعها وسقط على ظهره وسقطت ثنية أبي عبيدة (أي إحدى مقدم أسنانه)، ثم أخذ الحلقة الأخرى فسقطت، فكان أبو عبيدة في الناس أثْرَمَ (أي مكسور مقدم أسنانه).
وقال ابن الجوزي في «صفة الصفوة»: فوقعت ثنيتاه فكان من أحسن الناس هَتْمًا. وفي سِيَر الذهبي: فانقلعت ثنيتاه فحسُنَ ثغره بذهابهما، حتى قيل: ما رؤي هَتْمٌ قط أحسن من هَتْم أبي عبيدة.
والمِغفر هو زَرَد أو حَلَقٌ من حديد يلبسها الدارع على رأسه ليَدَّرع بها عند القتال.
جهاده وغزواته
وكان أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه ممن غزوا وقادوا الغزوات في الجزيرة وخارجها، ومن هذه الغزوات غزوة ذات السلاسل التي كان أميرها عمرو بن العاص، فاستنجد عمرو برسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إليه سراة من المهاجرين والأنصار بينهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وأمَّرَ عليهم أبا عبيدة بن الجراح، فكان النصر للمسلمين وذلك سنة ثمان للهجرة.
وكان أبو عبيدة رضي الله عنه أمير سرية الخَبَط التي كانت في رجب سنة ثمان للهجرة نحو حي من جهينة قرب البحر، فأصاب الجيش جوع شديد فأكلوا الخَبَط، وهو نوع من الشجر يسمى ورق السَّمُر. ولما وصلوا إلى البحر ألقى إليهم حوتًا عظيمًا يسمى العنبر، فأكلوا منه نصف شهر ثم عادوا إلى المدينة.
وفي سنة ثلاث عشرة للهجرة وجهه أبو بكر رضي الله عنه إلى حمص في جيش وبعث إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه الذي كان في العراق، أن ينجد من في الشام، فقطع برية السماوة حتى وصل إلى دمشق فأمَّرَه الصدّيق على الأجناد فحاصروا دمشق، ولما توفي أبو بكر الصديق رضي الله عنه واستُخلف عمر، بادر بعزل خالد بن الوليد وأمَّرَ أبا عبيدة على أجناد الشام، وكان فتح دمشق على يديه.
وفاته
كانت وفاته رضي الله عنه سنة ثماني عشرة للهجرة بالطاعون المشهور الذي سمي طاعون عَمواس، ففي سِيَر الذهبي، عن الأسود عن عروة، أن طاعون عمواس كان أبو عبيدة وأهله معافين منه، فقال رضي الله عنه: اللهم نصيبك في ءال أبي عبيدة، فخرجت بأبي عبيدة في خنصره بثرة كان بداية الطاعون به. وقيل إنه كان معه من الجند ستة وثلاثون ألفًا، فلم يبق منهم إلا ستة ءالاف.
وكان له من العمر ءانذاك ثمانٍ وخمسون سنة، وصلى عليه معاذ بن جبل رضي الله عنه ودفن في بيسان، وهي قرية في فلسطين بين الرملة وبيت المقدس.
رحم الله أبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.