ترجمته
الإمام المجمع على جلالته وإمامته الذي تُستنزل الرحمة بذكره وترتجى المغفرة بحُبِّه، المجاهد عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي التميمي المروزي وهو من تابعي التابعين أبوه رجل صالح تقي كثير الانقطاع للعبادة شديد الورع حتى إنّ له قصة عجيبة وهي أنّ مولاه طلب منه يوما أن يحضر له رمانا حلوا فأحضره فإذا هو حامض، فغضب مولاه ثم تكرر ذلك ثلاث مرات وفي كل مرة يكون حامضا، قال له مولاه: أنت لا تعرف الحامض من الحلو، فقال المبارك: ما أكلتُ منه شيئا حتى أعرفه قال: لمَ لم تأكل قال: لأنك ما أذنت لي بالأكل منه، فعجب صاحب البستان وعظم في عينه وزاد قدره عنده وكانت له بنت خُطبت كثيرا فقال: يا مبارك من ترى تزوّج هذه البنت فقال: أهل الجاهلية كانوا يزوجون للحسب واليهود للمال وهذه الأمة للدين، فأعجبه عقله وأخبر الرجل زوجته وقال لها: ما أرى لهذه البنت زوجا غير مبارك، فتزوجها ثم ولدت له عبد الله فتمت عليه بركة أبيه وأنبته الله نباتا صالحا. وقد ولد سنة ثمان عشرة ومائة كما قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره وكان مولده في مدينة مرو أشهر مدن خراسان.
مناقبه
كان ابن المبارك يتردد إلى الكُتّاب يتلقى هناك بعض العلوم وبدت عليه مخايل النبوغ وملامح الذكاء منذ صغره، شهد بذلك أصدقاؤه الذين كانوا معه في ذلك الوقت فقد أورد الخطيب البغدادي قصة عن صديق ابن المبارك قال: كنا غلمانا في الكتاب فمررت أنا وابن المبارك ورجل يخطب فخطب خطبة طويلة فلما فرغ قال ابن المبارك: قد حفظته، فسمعه رجل من القوم قال: هاتها فأعادها ابن المبارك وقد حفظها.
أما طلبه للعلم فما فتئ يطلب العلم وما فتر عن السفر فقد سافر إلى جميع الأمصار فمن اليمن إلى الشام إلى الحجاز والبصرة والكوفة ومصر، قال عنه الإمام أحمد رحمه الله: لم يكن في زمن ابن المبارك أطلب للعلم منه، وقال زكريا بن عديّ: رأيت ابن المبارك في النوم بعد موته فقلت له: ما فعل الله بك قال لي: غفر لي برحلتي في الحديث.
وقد بلغ عدد من حمل عنه من الشيوخ أربعةءالاف وقد قال: حملت عن أربعة ءالاف شيخ فرويت عن ألف منهم. وكان ينشر العلم حيث رءاه ويأخذه حيث وجده لا يمنعه من ذلك مانع، كتب عمّن هو فوقه وكتب عمّن هو مثله ممن هو أصغر منه، أما خدمته لأساتذته وتواضعه فهو ظاهر في حياته، قال أستاذه عيسى بن يونس: كنا بأرض الروم أنا وابن المبارك وربما استحييت من خدمة ابن المبارك لي كان يأخذ بركابي، فإذا نزلنا قدّم لنا الخبيص وهو طعام يُصنع من التمْر والسَّمْن فيلقمني ويقعد يسألني عن الحديث ويكتب، وأما إخلاصه في طلب العلم وطلب رضا الله وثوابه بطلبه فهذا يُعرف من قول البغدادي عنه إنّه من الربانيين في العلم.
كراماته
أما كرامات عبد الله بن المبارك فكثيرة، قال الخليلي في الارشاد: ابن المبارك الإمام المتفق عليه له من الكرامات ما لا يحصى، يقال إنّه من الأبدال كما ورد في تهذيب التهذيب. والأبدال جمع بدَل وهم جماعة من الأولياء الصالحين كلما مات رجل منهم أبدل الله مكانَه رجلا وهم أربعون، لا تخلو الأرض منهم وهم من أكابر الأولياء، قال قتادة عن الحسن البصري: لسنا نشك أنّ الحسنَ منهم. وقد ورد في تهذيب التهذيب: عن أبي وهب قال مرّ ابن المبارك برجل أعمى فقال: أسألك أن تدعو الله أن يردّ عليّ بصري، فدعا الله فرد عليه بصره وأنا أنظر، وورد هذا في تاريخ بغداد. وقد ورد في تاريخ بغداد أنّ الأوزاعي رحمه الله قال لعبد الرحمـٰن الجهمي: رأيتَ ابن المبارك، قال: لا، قال: لو رأيته لقرّت عينُك.
كثرة علمه
أما قوة حفظه للعلم والحديث فقد كان يتمتع بحافظة نادرة حتى روي أنه قال: ما أودعت قلبي شيئًا قط فخانني، وحضر مرّة عند حماد بن زيد مسلمًا عليه فقال أصحاب الحديث لحماد بن زيد: يا أبا إسمـٰعيل، تسأل أبا عبد الرحمـٰن يعنون ابن المبارك أن يحدثنا، فقال حماد: يا أبا عبد الرحمـٰن تحدثهم فقد سألوني، فقال: سبحان الله يا أبا إسمـٰعيل أحدث وأنت حاضر فقال: أقسمت لتفعلن، فحدثهم مجلسًا كاملًا فما حدّث فيه بحرف إلا عن حماد بن زيد.
وحدّث المسيب بن واضح قال: سمعت أبا إسحـٰق الفزاري يقول: ابن المبارك إمام المسلمين ورأيت أبا إسحـٰق الفزاري بين يدي ابن المبارك قاعدا يسائله ، مع العلم أنّ أبا اسحـٰق أكبر من عبد الله بن المبارك بعشرين سنة.
عقيدته
أما عقيدته فكانت عقيدة أهل السنّة والجماعة، كان حربا على أهل البدع الضلالية حربا على المعتزلة والمرجئة والجهمية، فقد حذّر من المعتزلة وزعيمهم الذين كانوا يقولون: العبد يخلق أفعال نفسه وكانوا يقولون الله ما خلق الشر وما قدّره، وهذا كفر وضلال. وكان يقول رأيه في الجهمية والقدرية كرأي سفيان الثوري رحمه الله: الجهمية كفار، والقدرية كفار. وروي أنّ جهم ذكر عنده فقال:
عجبت لشيطان أتى الناس داعيا إلى الشر وانشق اسمه من جهنّم
وموقفه مـن القـول بخـلق القــرءان هو موقف أهـل السنة حيث يقـول: إن كلام الله الذي هو صفة ذاته أزلي أبدي ليس بحرف وصوت ولغة ولا يشبه كلام العالمين، كلام الله ليس ككلامنا. وقال: من زعم أنّ القرءان مخلوق فقد كفر بالله العظيم، والمراد بالقرءان هنا كلام الله الذاتي.
أما رأيه في أحاديث الصفات فقال كما قال الزهري والأوزاعي وأحمد وغيرهم أمرّوها بلا كيف، فالله لا يوصف بصفات الخلق. قال عز وجل ﴿وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى﴾(سورة النحل/الأية 60) أي لله الوصف الذي لا يشبه وصف غيره ورحم الله الطحاوي الذي قال: « ومن وصف الله بمعنًى من معاني البشر فقد كفر»، أما الشعر فكان رحمه الله ينظم الشعر الذي فيه حكمة وحث على الجهاد في سبيل الله والزهد والخشية من الله تعالى وترك المعاصي وشهادة الزور.
وفاته
توفي رحمه الله سنة إحدى وثمانين ومائة لعشر خلون من رمضان، مات سحرًا بعد انصرافه من الغزو في شهرٍ أوله رحمة وقد دُفِن بهيت وقبره ظاهر يُزار هناك. وهيت بلدة على الفرات من نواحي بغداد وقد زار بعض الفضلاء قبر ابن المبارك فقال:
مررت بقبر ابن المبارك غدوةً فأوسعني وعظًا وليس بناطق
وقد كنتُ في العلم الذي في جوانحي غنيا وبالشيب الذي في مفارقي
ولكن أرى الذكرى تنبه عاقلا إذا هي جاءت من رجال الحقائق
رحم الله ابن المبارك وأعلى مقامه في عليين ونفعنا به وبعلمه.