إذا أردتم طباعة هذا الملف فاحرصوا أن لا تلقوا الورقة في أماكن مستقذرة لوجود أسماء مُعَظّمة عليها
قصة نبيّ الله لوط ۲
الحمدُ لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن صلوات الله البَرِّ الرحيم والملائكة الْمُقرَّبين
على سيدنا محمد أشرف المرسلين وحبيبِ رب العالمين وعلى جميع إخوانهمن النبيين والمرسلين وءال كُلٍّ والصالحين
وسلامُ الله عليهم أجمعين
يقولُ الله تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ {74} إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ {75} يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ ءاتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ {76} وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ {77} وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ {78}﴾[1].
إنَّ اللهَ سبحانَهُ وتعالى يُخبِرُنا بأنه لَمَّا ذهَبَ عن سيِّدِنا إبراهيمَ ﴿الرَّوْعُ﴾ أي الفَزَعُ وهوَ ما أوجَسَ مِنَ الخِيفَةِ حينَ أنكَرَ أضيافَهُ لأنه لَم يعرِفهُم ﴿ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى﴾ بالوَلَدِ واطمأنَّ قلبُهُ بعدَ الخوف ومُلأَ سرورًا بسببِ البُشرى فَرَغَ للمُجادَلَةِ أي لِمُجادَلَةِ الملائكة، ومُجادَلَتُهُ إياهُم أنهم قالوا: ﴿إنا مُهلِكوا أهلَ هذه القرية﴾[2] فقال: أرأيتُم لو كانَ فيها خَمسونَ مؤمنًا أتُهلِكونها؟ قالوا: لا، قال: فأربعون؟ قالوا: لا، قال: فثلاثون؟ قالوا: لا، حتى بَلَغَ العشَرة قالوا: لا، قال: أرأيتُم إنْ كانَ فيها رجُلٌ واحِدٌ مسلم أتُهلِكونَها؟ قالوا: لا، فعِندَ ذلك قال: ﴿إنَّ فيها لوطًا﴾ وهو اسمٌ حسَنٌ أعجَمِيٌّ ليسَ مُشتَقًّا مِنْ فِعلٍ خبيث ولا يُشتَقُّ منه خبيث أما كلِمَةُ اللِّواط فهي كلمةٌ عربيَّةٌ كانت قبلَ لوطٍ عليه السَّلام، فكلُّ الأنبياءِ أسمائُهُم حسَنة ليست خبيثة ولا يُشتَقُّ منها فِعلٌ خبيث وليست مُشتَقَّةً مِنْ خبيث.
ثم ﴿قالوا﴾ أي الملائكة: ﴿نحنُ أعلمُ بمن فيها لنُنَجِّينَّهُ وأهلَه﴾.
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ﴾ غيرُ عَجولٍ على كلِّ مَنْ أساءَ إليه، أو كثيرُ الاحتِمالِ مِمّن أذاه صَفوحٌ عمَّن عصاه، ﴿أَوَّاهٌ﴾ كثيرُ التأوُّهِ مِنْ خوفِ الله، وقالَ عبدُ اللهِ بنُ مسعود: ((الأوّاهُ: الرَّحيم))[3]، ﴿مُّنِيبٌ﴾ تائبٌ راجعٌ إلى الله، وهذهِ الصّفاتُ دالّةٌ على رِقَّةِ القلبِ والرَّأفةِ والرّحمة، فبيّنَ أنَّ ذلكَ مِمّا حَمَلَهُ على المُجادَلَةِ فيهم رجاءَ أن يُرفعَ عنهُم العذاب ويُمهلوا لعلّهم يُحدِثونَ التوبة كما حَمَلَهُ على الاستغفَارِ لأبيهِ قبلَ أن يعلمَ بأنه يموتُ كافِرًا.
فقالتِ الملائكةُ: ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا﴾ أي عن هذا الجِدال وإنْ كانت الرّحمةُ دَيدَنُك أي عادَتُك ﴿إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ﴾ أي قضاؤهُ وحُكْمُهُ ﴿وَإِنَّهُمْ ءاتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ﴾ أي لا يُرَدُّ بِجِدالٍ وغيرِ ذلك، ثمَّ خرجوا مِنْ عندِ إبراهيمَ متوجّهينَ نَحوَ قومِ لوط وكانَ بينَ قريةِ إبراهيمَ وقومِ لوط أربعَةُ فراسخ.
﴿وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا﴾ أي الملائكة ﴿لُوطًا﴾ أي لَمَّا أتوهُ ورأى هيئاتِهِم وجمالَهم ﴿سِيءَ بِهِمْ﴾ أي أُحزِنَ لأنه حَسِبَ أنهم إنسٌ فخَافَ عليهمُ خُبْثَ قومِهِ وأن يَعجِزَ عن مقاوَمَتِهِم ومُدافَعَتِهم ﴿وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا﴾ أي وضاق بمكانِهِم صدرُهُ، ﴿وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾ أي شديد، رُوِيَ أنَّ الله تعالى قال لَهم: ((لا تُهلِكوهم حتى يشهدَ عليهِم لوطٌ أربعَ شهادات)) فلمّا مَشَى معهُم مُنطَلِقًا بِهم إلَى منزلِهِ قال لَهم: أما بلغَكُم أمرُ هذهِ القرية، قالوا: وما أمرُهُم؟ قال: أشهدُ باللهِ إنها لشَرُّ قريةٍ في الأرضِ عمَلاً، قال ذلكَ أربعَ مرّات، فدخلوا معه مَنزِلَهُ ولَم يعلم بذلكَ أحد فخرجَت امرأتُهُ فأخبرَت بهم قومَها.
﴿وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ﴾ أي يُسرِعون كأنما يُدْفَعونَ دَفعًا ﴿وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ أي ومِنْ قبلِ ذلك الوقتِ كانوا يَعمَلونَ الفواحِشَ حتّى مَرَنوا عليها[4] وقَلَّ عندَهم استقباحُها فلذلكَ جاؤوا يُهرَعون مُجاهِرينَ لا يَكُفُّهُم حياء، ﴿قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي﴾ أي فتزوّجوهُنَّ، أرادَ أن يَقِيَ أضيافَهُ ببناتِهِ وذلكَ غايةُ الكرَم، وكانَ تزويجُ المسلماتِ مِنَ الكفَّارِ جائزًا في ذلكَ الوقت كما جازَ في الابتداءِ في هذهِ الأمة، فقد زوّجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ابنتيهِ مِنْ عُتبَةَ بنِ أبِي لَهب وأبي العاص وهُما كافِران. ﴿هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾ أي أحلُّ ﴿فَاتَّقُواْ اللهَ﴾ بإيثارِهِنَّ عليهم ﴿وَلاَ تُخْزُونِ﴾ أي ولا تُهينونِي في ضيفي ولا تفضحوني، أو ولا تُخجِلونِي، مِنَ الخِزايَةِ وهي الحياء، ﴿فِي ضَيْفِي﴾ في حقِّ ضيوفِي، فإنهُ إذا خَزِيَ ضَيفُ الرّجُلِ أو جارُهُ فقد خَزِيَ الرّجُل، وذلكَ مِنْ عَراقَةِ الكرَمِ وأصالَةِ المروءة.
اللهم ارحمنا واعفُ عنا وقنا عذابك في الدنيا والآخرة
يا أرحم الراحمين
[1] – سورة هود.
[2] – سورة العنكبوت.
[3] – رواهُ ابنُ أبي حاتِمٍ بإسنادٍ حسن.
[4] – أي اعتَادُوا عليها.