بسم الله الرحمن الرحيم
المقالات الطرابلسية
عقيدة علماء طرابلس في مائة سنة
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد أشرف المرسلين، أمّا بعد:
– مقدمة من كلام الشيخ حسين الجسر الطرابلسي رحمه الله
قال الشيخ حسين الجسر رحمه الله في كتابه الحصون الحميدية:
إعلم أنّ علم التوحيد هو علم يُبحث فيه عن إثبات العقائد الدينية بالأدلة اليقينية وثمرته هي معرفة صفات الله تعالى ورسله بالبراهين القطعية والفوز بالسعادة الأبدية، وهو أصل العلوم الدينية وأفضلها، وقد جاءت به جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام من لدن سيّدنا ءادم إلى سيّدنا محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام.
ولكن لمّا كان الشيخ أبو منصور الماتريدي والشيخ أبو الحسن الأشعري أشهر من دوّن كتب هذا العلم وأقام الأدلة والبراهين على ردّ ما قاله المخالفون شاع أنّهما الواضعان له. ويفترض تعلّمه على كلّ مكلف من ذكر وأنثى ولو بأدلّة إجمالية.
وقد اعتنى العلماء من السلف والخلف بهذا العلم تدريساً وتحفيظاً وتفهيماً وأوْلوه اهتماماً كبيراً وألّفوا فيه المؤلّفات والرسائل وعقدوا لذلك المجالس وناظروا أهل البدع وكشفوا فساد معتقداتهم وردّوا شبههم وتمويهاتهم.
واقتداء بهؤلاء الأعلام درج علماء طرابلس الشام على تعليم أبناء مدينتهم العقيدة الحقّة وتأليف الرسائل في إرشادهم إليها وردّ تمويهات المنحرفين حفظاً لعقائد شبّان هذه الأمة من الوقوع في الزيغ والضلال.
ومن أكثر ما اعتنوا به جزاهم الله خيراً مسئلة تنـزيه الله عن المكان والجهة، لأنها أصلٌ عظيم من أصول الدين وهي عقيدة كل المسلمين، فقد اتفق المسلمون عامة سلفهم وخلفهم على أن الله تعالى لا يحلّ في مكان أو جهة ولا يحويه مكان أو جهة ولا يسكن السماء، ولا يسكن العرش، لأنّ الله تعالى موجود قبل العرش وقبل السماء وقبل المكان والجهة، ويستحيل على الله التغيّر من حال إلى حال ومن صفة إلى صفة أخرى، فهو تبارك وتعالى كان موجوداً في الأزل بلا مكان ولا جهة، وبعد أن خلق المكان والجهة لا يزال موجوداً بلا مكان ولا جهة. اهـ
وقد منّ الله علينا فجمعنا في هذا الكتاب مختارات من أقوال هؤلاء العلماء في تنـزيه الله عن المكان والجهة، لتطمئن بها القلوب ويظهر لكلّ طالب هدى أنّ هذه المدينة العريقة بعلمائها وأصالتها كانت ولا تزال على عقيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عقيدة مئات الملايين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وليظهر أنّ ما خالف هذه العقيدة فهو شاذّ عن عقيدة علماء الحقّ وأئمّة الهدى والله المستعان وهو الهادي إلى الإيمان.
– من مقالات الشيخ أبو المحاسن محمدّ بن خليل القاوقجـي المتوفي (سنة 1305هـ)
مسند بلاد الشام في وقته وعلى أسانيده المدار في غالب بلاد الشام ومصر والحجاز.
نشأ يتيماً في كنف أخواله من ءال الحامدي ومن ثمّ سافر إلى مصر وتابع تحصيله العلمي في أزهرها، وأمضى أكثر من سبع وعشرين سنة يقرأ الفنون ويتلقّى العلوم على جماعة من العلماء المشهورين في مصر وغيرها.
وبعد أن أتمّ التحصيل عاد إلى بلده طرابلس وعكف على التدريس في مساجدها وبخصوص في مسجد الطحّام، إلى جانب الاشتغال بالتأليف.
أولى عنايته لتعليم أبناء مدينته العقيدة الحقّة التي توارثها العلماء عن سلفهم الصالح فوضع عدة رسائل في بيان عقيدة أهل السنّة والجماعة في الله وصفاته ورسله الكرام، منها ( كفاية الصبيان فيما يجب من عقائد الإيمان )، و( الاعتماد في الاعتقـاد )، و( سفينة النجـاة في معرفة الله )، و( بغية الطالبين فيما يجب من أحكام الدين ).
وقد ضمّن كتبه تنـزيه الله عن المكان والجهة والجسمية فقال رحمه الله في كتابه ( الاعتماد في الاعتقاد ) ( في الصحيفة الخامسة ) ص/5 ما نصّه: فإذا قال لك أين الله؟ فقل: مع كلّ أحد بعلمه – أي لا بذاته – وفوق كلّ أحد بقدرته، منـزّه عن الجهة والجسمية(1)، فلا يقال: له يمين ولا شمال ولا خلف ولا أمامٌ ولا فوق العرش ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن شماله، ولا داخل في العالم ولا خارج عنه ولا يقال: لا يعلم مكانه إلا هو.
فإذا قال لك: مادليلك على ذلك؟ فقل: لأنّه لو كان له جهة أو هو في جهة لكان متحيّزاً وكلّ متحيّز حادث، والحدوث عليه محالٌ. اهـ
وقال في كتابه: ( سفينة النجاة في معرفة الله وأحكام الصلاة )
(في الصحيفة السابعة) ص/7 ما نصّه: نعتقـد بـأنّ ذاته تعالى لا يشبه الذوات ولا صفاته تشبه الصفات ولا أفعاله تشبه الأفعال، ويستحيل عليه المماثلة للحوادث بأن يكـون ذاته كالذوات يأخذ مقداراً من الفراغ، أو يتّصف بالأعراض كالبياض، أو يكون في جهة كالفوق والتحت واليمين والشمال والخلف والأمام، أو يكون جهةً كالأعلى والأسفل، أو يحلّ بمكان أو يُقيّد بزمان، أو يتصف بالصغر أو بالكِبَر أو التوسّط، أو النور -أي الضوء- أو الظلمة . اهـ
وقال في كتابه ( بغية الطالبين فيما يجب من أحكام الدين )
(في الصحيفة الثانية عشرة) ص/12 ما نصّه: وأما تنزهه تعالى عن الجهة فللزوم الحد في ذاته فالجهات كلّها من توابع الأجسام وإضافاتها، فلو كان تعالى في جهةٍ، أو له تعالى جهةٌ لكان مشابهاً للحوادث وهو باطل. وأمّا رفع الأيدي عند الدعاء فلأنّ السماء منـزل البركات وقِبلة الدعوات. والله فوق كل موجودٍ بالقهر والاستيلاء وهو القاهر فوق عباده وهو اللطيف الخبير وأمّا تنـزههُ عن المكان فلأنّ المكان مخلوق ولازمٌ للتحديد، فالمكان ما استقر عليه الجسم لا فيه، والحيّز ما ملأ الجسم، فالمكان والحيّز أمران نسبيّان من لواحق الأجسام وتوابعها، والله تعالى كان ولا زمان ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان،(2) خلق المتمكّن والمكان، وأنشأ الخلق والزمان. اهـ
مراد القاوقجي رحمه الله ان القول بنسبة الجهة إلى الله والعياذ بالله يقتضي ذلك لزوم الحد على الله أي أن يكون محدوداً محصوراً في هذه الجهة و هذا مستحيل على الله عز وجل,
قال الإمام أبو جعفر الطحاوي وهو من رؤوس السلف : تعالى _ أي الله _ عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات.
وفي الصحيفة الخامسة والثلاثين يقول رحمه الله تعالى ص/35 ما نصّه: فيُرى سبحانه وتعالى لا في مكان ولا جهة من مقابلة أو اتصال شعاع أو ثبوت مسافة بين الرائي وبين الله تعالى . اهـ
وفي كتــابـــه ( البدر المنير على حزب الشاذلي الكبير )
في الصحيفة الواحدة والعشرين ص/21 يقول ما نصّه: { الرحمن على العرش استوى } استواءً يليق بجلاله(3)، بدون وصف التمكّـن والاستقـرار، فإنّـه تعالـى كان ولا مكان ولا عرش ولا زمان فإذاً خالق الخلق لا يحتاج إلى مكان. اهـ
وفي الصحيفة الواحدة بعد المئة ص/101 ما نصّه: وقربه تعالى ليس قرب مسافة ولا مساحة، لأنّه يتعالى عن الحدود والأقطار والنهاية. اهـ
والله اعلم وأحكم والسلام عليكم ورحمة الله