بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلَّى الله على رسول الله وسلَّم وعلى ءاله وأصحابه الطيبين وبعد.
فإن معرفة أحكام النكاح وتعلّمها من المهمّات الضرورية الواجبة على من يريد الزواج، كمعرفة شروط صحة عقد النكاح، وما يفسخه كالطلاق، ومعرفة ما يجب للزوجة على زوجها، وما يجب له عليها؛ وذلك أن جهل هذه الأمور والإخلال بها يؤدي إلى مفاسد منها المعاشرة بالحرام، فكان عقد النكاح يحتاج إلى مزيد احتياط وتثبّت، ويكون ذلك بتعلّم أحكامه بالتلقّي مِنْ معلّم عارف بها وتطبيقها.
ونسأل الله حسن الخاتمة وحسن العمل.
النكاح
النكاحُ شرعًا: عقدٌ يتضمنُ إباحةَ وطءٍ بلفظِ إنكاحٍ، أو تزويجٍ، أو بترجمته.
والأصلُ فيه قبل الإجماعِ ءاياتٌ كقوله تعالى: ﴿فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَعَ [3] ﴾ [سورة النساء]، وأخبارٌ كخبر: “تَنَاكَحُوا فإنّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ” رواهُ البيهقيُّ والترمذيُّ.
والنكاحُ يُسنُّ لمن به حاجةٌ إليه معَ القدرة على الأُهَب، وهو أن يجدَ الشخصُ: المهرَ، وكسوةَ فصلٍ، ونفقةَ يوم النكاح، تحصينًا للدين؛ وأمّا غيرُ المحتاجِ إليه فإن فقد أهبتَهُ كُرِهَ له، فإن احتاج إلى شخصٍ يخدِمُه يستأجرُ استئجارًا.
ويُسنُ في الزوجة:
* أن تكون ديّنة، لخبر الصحيحين: “تُنْكَحُ المرأةُ لأربعٍ: لمالِها ولجمالِها ولحسبِها ولدينِها، فاظفر بذاتِ الدين تَرِبَتْ يداكَ” رواه البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
* وأن تكون بكرًا، فنكاحُ البكرِ أفضل من نكاحِ الثيّب.
* وأن تكون ذات نسب، وأما نكاح بنت الزنى فمكروه إلا إذا نوى أن يُعفّها، فعندئذٍ يكون سنّة فيه ثواب.
* وأن تكون ولودًا، ودودًا غير عبوسة بوجه زوجها، غير ذاتِ قرابة قريبة كبنت العم، ولا يدخل في ذلك بنت ابن العم.
ويجوزُ للحرّ أن يجمع بين أربعٍ من الحرائر في ءانٍ واحد لقولِهِ تعالى: ﴿فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَعَ [3] ﴾ [سورة النساء].
ونظرُ الرجل إلى المرأةِ على أضربٍ منها:
1.نظره إلى المرأةِ الأجنبية غير حليلته: فغير جائز مطلقًا إذا كان إلى غير وجهها وكفّيها، أو كان إلى الوجه والكفّين مع الشهوة، فإن كان بلا شهوة وخوف فتنة حَلَّ النظر إليهما، وهذا ما عليه الجمهور.
وأما عورتها أمام الأجانب فجميع بدنها سوى وجهها وكفّيها، وقد نقل الإجماع على ذلك القاضي عياض المالكي وابن حجر الهيتمي الشافعي وقال (أي ابن حجر): إنه لا يلزم من منع ولاة الأمور للنساء الخروج سافرات أي كاشفات الوجه للمصلحة العامة وجوب تغطية الوجه والكفّين عليهن أمام الأجانب. اهـ.
2. ونظره إلى زوجته: فيجوز له أن يلمس وينظر إلى أيِّ موضعٍ منها.
3. ونظره إلى ذوات محارمه: فيجوز إلى ما عدا ما بين السرّة والركبة، والمحرم من حرُم نكاحها على التأبيد بسبب نسب، أو رَضاعٍ، أو مصاهرة، كالبنتِ، والأختِ من الرضاعِ، وأمّ الزوجةِ.
4. ونظره إلى المرأة إذا أراد الزواج بها: فيجوز له أن ينظر إلى وجهها وكفّيها ظاهرهما وباطنهما، إذ يستدل بالوجه على الجمال وبالكفين على خصوبة البدن.
ونظره إلى المرأة عند مداواتها: فيجوز إلى المواضع التي يحتاج إليها، وإن كان يكتفي بمجرّد الجسّ بدون نظر اقتصر على ذلك، وهذا إذا لم يكن طبيبة أنثى وإلا فلا تذهب المرأة إلى الطبيب الذكر إلا للضرورة.
عقد النكاح
وعقد النكاح يحتاج إلى مزيد احتياط وتثبُّت على غيره من العقود، نظرًا لما يترتب على الإخلال بشرط من شروطه.
شروط النكاح
لا يصح عقد النكاح إلا بوليّ وشاهدين، وزوجين خاليين من موانع النكاح، وإيجابٍ: كقول الوليّ زوّجتك، أو أنكحتك ابنتي، وقبولٍ: كقول الزوج قبلت نكاحها، أو تزويجها، أو هذا النكاح أو التزويج.
ويجوز للمسلم أن يتزوج من المسلمة، واليهودية، والنصرانية؛ ولا يجوز للمسلمة أن تتزوّج بغير المسلم.
ويصحّ العقد بأيّ لغة من اللغات، لكن يشترط أن يعرف الشاهدان اللغة التي يجري بها الولي العقد.
ويشترط في الولي والشاهدين:
* أن يكونوا مسلمين، وهذا في غير ولي الذمية أي اليهودية أو النصرانية، وأما اليهودية أو النصرانية فإذا زوجها أبوها الذي هو على دينها لمسلم صح العقد.
* وأن يكونوا مكلّفين، أي بالغين عاقلين، فلا ولاية لصبي أو مجنون.
* وأن يكونوا عدولا أي بحسب الظاهر فينعقد بالمستور العدالة من كل من الوليّ والشاهدين وهو المعروف بها ظاهرًا لا باطنًا. والعدل هو المسلم المجتنب للكبائر، غير المصرّ على الصغائر، المحافظ على مروءة أمثاله، السليم السريرة، المأمون الغضب.
* ويشترط في الشاهدين: سمعٌ، وبصرٌ، وضبطٌ، ونطق، وفقدٌ للحِرَف الدنيئة، فلا تصحّ شهادة الأعمى، والأصم، والأخرس، ومن لا يضبط الكلام، ومن يحترف حرفة دنيئة.
* وأولى الولاة الأب، ثم الجد أبو الأب، ثم الأخ للأب والأم، ثم الأخ للأب، ثم ابن الأخ للأب والأم، ثم ابن الأخ للأب، ثم العم للأب والأم، ثم العم للأب، ثم ابن العم للأب والأم، ثم ابن العم للأب، فإذا لم يوجد أحدٌ من العصبات فوليُّ النكاح المولى المعتِق أي الذي كان سيدها ثم أعتقها إن كان سبق لها أن كانت أمة؛ فإذا لم يوجد فوليّ النكاح الحاكم وهو السلطان أو الخليفة أو من ينوب منابه من ولاةٍ كالقاضي.
ويشترط مراعاةُ هذا الترتيب في الأولياء فإذا زوّج واحد من هؤلاء وهناك من هو أقرب منه ممن اكتملت فيه الشروط لم يصحّ العقد.
ولا يجوز للرجل أن يصرّح بخِطبة المعتدة الرجعية أو البائن سواء كان سببُ العدّة طلاقًا، أو موتًا، أو فسخًا؛ ويحرم عليها التصريح بالقبول كذلك، كأن يقول لها: أريد أن أتزوجك، فتقول: أنا موافقة، وهذا لغير صاحب العدّة، أمّا صاحب العدّة فيجوز له إذا صرّح بخِطبتها، كأن كان طلّقها طلقة أو اثنتين أو خالعها على مال، وهي لا يحرمُ عليها أن تجيب بالموافقة.
وأمّا التعريض وهو ما يحتمل الرغبة في النكاح وغيرها فجائز للبائن، كالمرأة المعتدة التي في عدّة الوفاة أو الطلاق الثلاث، وذلك كأن يقول لها: رُبَّ راغبٍ فيك، ثمّ يتزوجها عند انقضاء عدتها.
وتحرم الخِطبة على الخِطبة بعد التصريح بالإِجابة ما لم يأخذ من الرجل الذي خطب أوّلا إذنًا بذلك، أو يعرض أهل المرأة عن الأوّل. وأما المنكوحة فخطبتها حرام فلا يجوز أن يقول رجل لإمرأة متزوجة: أريد أن أتزوجك.
ويجوز للأب والجد إن لم يكن الأب أن يجبرا البكر على الزواج ممن هو كفء لها، ويجد مهرها حالا؛ وأما الثيّب وهي التي زالت بكارتها بجماع فلا يجوز إجبارها على النكاح، بل لا بُدّ من إذنها الصريح بعد بلوغها.
خُطبة عقد النكاح
يستحب أن يُخطب بين يدي العقد خطبة، وأفضلها ما رواه أبو داود وغيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة: “الحمدُ لله نَستعينُهُ ونستغفرُهُ، ونعوذُ بهِ من شُرورِ أنفُسِنَا، من يهدِ الله فلا مُضلَّ لهُ، ومن يُضلل فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ ان لا إله إلا الله وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسوله، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [1] ﴾[سورة النساء] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [102] ﴾ [سورة ءال عمران] ﴿يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [71] ﴾ [سورة الأحزاب].
واعلم أن هذه الخطبة سنة، ولو لم يأت بشىء منها صح النكاح باتفاق العلماء، ولا عبرة بمن خالف ذلك ممن لا ينخرق الإجماع بمخالفته.
ما يقال للزوج بعد عقد النكاح
السنة أن يقال له: بارك الله لك، وبارك الله عليك، وجمع بينكما في خير. ويستحب أن يقال لكل واحد من الزوجين: بارك الله لكل واحد منكما في صاحبه، وجمع بينكما في خير.
روى أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا رفأ الإنسان _ أي إذا تزوج _ قال: “باركَ الله لكَ وباركَ عليكَ وجمع بينكما في خير”، قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
ما يقال عند الجماع
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقُضي بينهما ولدٌ لم يضُرَّهُ”، وفي رواية للبخاري: “لم يَضُرَّه شيطانٌ أبدًا”.
ما يقال عند الولادة
روى أبو داود والترمذي عن أبي رافع رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أذَّن في أذن الحسين بن علي حين ولدته فاطمة بالصلاة”.
ويستحب أن يؤذّن في أذنه اليمنى، ويقيم في أذنه اليسرى.
بيان من يحرم على الرجل نكاحها
*وأمّا فيمن يحرم على الرجل من نساء قرابته، فقد ذكر بعض العلماء ضابطًا في ذلك وهو: تحرمُ نساءُ القرابةِ إلا من دخلت باسم ولدِ العمومة أو ولد الخؤولة، فلا تحرم بنت الخال وبنت الخالة، وبنت العم وبنت العمّة وإن قربت؛ قال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ [23] ﴾ [سورة النساء].
* ويحرمُ بالرضاعِ ما يحرمُ بالنسبِ، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: “يحرمُ من الرضاع ما يحرمُ من النسب”، رواه الشيخان.
* ويحرمُ بطريق المصاهرة زوجات الأب وإن علا كالجد، وزوجات الإبن وإن سفل كابن الابن، سواءٌ كنّ من نسب أو رضاع، لقوله تعالى: ﴿وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ [23] ﴾ [سورة النساء]، فلا يجوز للرجلِ أن يتزوج زوجة أبيه، ولا زوجة جدّه، ولا زوجة ابنه، ولا زوجة ابن ابنه، ويجوز لها أن تكشف أمامه ما تكشفه أمام محارمها كرأسها وساقيها، وأن تختلي به.
* ويحرمُ بالمصاهرة أيضًا أمّهات الزوجة، فإنّهنّ يحرمن بمجرد العقد لقولِ الله تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ [23] ﴾ [سورة النساء]؛ وكذلك تحرمُ بنات الزوجة بعد العقد والدخول لقوله تعالى: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [23] ﴾ [سورة النساء].
* ويحرم من جهة الجمع أخت الزوجة سواء كانت الأختان شقيقتين أو من الأب أو الأم، من نسبٍ أو من رضاع لقوله تعالى: ﴿وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ{23}﴾ [سورة النساء].
* يحرمُ أيضًا الجمعُ بين المرأةِ وخالتها وبين المرأة وعمّتها.
الصّداق
الصداق هو المهر، والأصل فيه قول الله تعالى: ﴿وَءاتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [4] ﴾ [سورة النساء]، وقوله: ﴿وَءاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [25] ﴾ [سورة النساء] أي مهورَهن، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: “الْتَمِسْ وَلو خاتَمًا مِنْ حَديدٍ”، رواه البخاريّ.
وإنّما سمّى الله تعالى المهر نِحْلةً أي عَطيَّةً لأنه ليس في مقابله غُرمٌ على المرأة، وذلك لأنه في مقابلِ أنّ الرجلَ يملكُ حقَّ الاستمتاع بها قال تعالى: ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [24] ﴾ [سورة النساء] أي لأنكم تملكون حق الاستمتاع بهنّ أعطوهنّ مهورهن.
وتسمية المهر في العقد سنة ولو كان قليلًا، فإن لم يُسَمَّ المهر صحّ العقد. ويثبت المهر بالفرض منهما بأن يتفقا على قدرٍ قليل أو كثير، أو بفرض الحاكم، كأن يختلفا على قدره فينظر الحاكم إلى ما يليق بها من المهر بحسب العادة، فما يقدّره الحاكمُ يثبت سواء في ذلك رضاهما وعدمه أو رضي أحدهما دون الآخر؛ فإن لم يتراضيا على شىء ولم يعين الحاكم ووطئها ثبت لها مهر مثلها، ومعنى مهر مثلها: ما يُرغب به في مثل نساء عصباتها، كأخواتها الشقيقات، وأخواتها من الأب، وبنات أخيها مع اعتبارِ السنّ، والعقل، واليَسار، والبَكارة، والثيوبة، والجمال، والعفّة، والعلم، والفصاحة.
ويشترط أن يكون الصداق معلومًا فلا يصحّ أن يُصْدِقها شيئًا مجهولا، كأن قال: زوّجتك بنتي ببيت من بيوتك.
ويسن أن لا ينقص عن عشرة دراهم خالصة، وأن لا يزاد على خمسمائة درهم خالص.
وإذا طلّق الزوج زوجته قبل أن يطأها سقط عنه نصف المهر إن كان دَيْنًا، وإن كان عينًا يعود له النصف لقول الله تعالى: ﴿وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُم [237] ﴾ [سورة البقرة].
ويجوزُ للمرأةِ أن تحبسَ نفسها عن زوجها حتى تقبض مهرها، أي الحالّ منه وليس المؤخر، أما المؤخر فتطالبه به بعد الوطء إلا إذا أجّل إلى أجل معيّن فلا تطالب به حتى تمضي المدّة.
وليمة العرس
وأمّا الوليمة على العرس فهي مستحبة، وتحصل سنة الوليمة بإطعام اللحم للمتمكن وغيره، وبغير اللحم، ووقتها موسع من حين العقد فيدخل وقتها به، والأفضل فعلها بعد الدخول.
والإِجابة إليها واجبة إلا لعذر منها: أن يكون هناك منكر لا يزول بحضوره كشرب الخمر، والضرب بآلات الملاهي، فإن كان لا يزول إلا بحضوره وجب حضوره للدعوة وإزالة المنكر.
فإن كان المدعو صائمًا صيام نفل وشقَّ على الداعي استمراره على الصوم فالفطر له أفضل.
الخُلْع
الخُلْعُ – بضم الخاء – من الخَلْع – بفتحها – وهو لغة النزع لأنَّ كلًّا من الزوجين لباس الآخر.
وهو ثابت بالإجماع وبقوله تعالى: ﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا [4] ﴾ [سورة النساء]، وبقوله صلى الله عليه وسلم في امرأة ثابت بن قيس: “اقبل الحديقةَ وطلّقها تطليقة” رواه البخاري والنسائي.
واختلف في الخلع هل هو طلاق أو فسخ، ومشهور مذهب الشافعيّ الجديد أنّه طلاق، وفي كتاب أحكام القرءان للشافعي وهو من كتبه الجديدة أنّه فسخ وهو مذهبه القديم؛ وهو مكروه إلا عند الشقاق، أو خوف تقصير من أحدهما في حقّ الآخر، أو كراهة الزوجة للزوج، أو كراهته إيّاها لزناها أو نحوه كترك الصلاة، أو للتخلّص من وقوع الثلاث أو الثنتين بالفعل فيما لو حلف بالطلاق ثلاثًا على فعل ما لا بد منه.
وتعريفه أنّه فرقة بعوض مقصود راجع لجهة زوج.
وأركانه خمسة:
أحدها: ملتزِم للعوض إن كان زوجة أو غيرها.
والثاني: البُضْع.
والثالث: العوض.
والرَّابع: الصيغة.
والخامس: الزوج.
وشرط في الزوج أن يكون ممن يصحّ طلاقه، ويشترط في الملتزِمِ كونه مُطلَق التصرّف في المال فلا يصح من المحجور عليه، ويشترط في البضع ملك زوج له فيصح في الرجعية لا في البائن، ويشترط في العوض أن يصحّ جعله صداقًا فإن خالعها بفاسد مقصود كالمجهول والخمر والمؤجل بالمجهول صحّ ولَزِم مهر المثل، أو ما لا يقصد كدم فَرَجْعِيّ، ويشترط في الصيغة الإِيجاب والقبول، ويجوز للزوجين التوكيل.
ثمّ الخلع إما صريح أو كناية.
فالصريح كقوله: خالعتك على كذا، أو فاديتك.
والكناية كأن يقول: فسخت نكاحك بألف، أو بعتك نفسك بألف فَتَقْبَل؛ فالكناية تحتاج إلى نيّة كما في الطلاق.
ثمّ على القول بأنّه فسخ يصلح لمن يريد الخلاص من وقوع الطلاق المعلّق إن كان ثلاثًا أو أقلّ كأن قال: إن كلّمتِ فلانًا أو دخلتِ دار فلان أو خرجتِ بدون إذني فأنتِ طالق ثلاثًا مثلًا، فإذا كان الزوج يريد أن يرجع إليها قبل أن يقع الطلاق المعلَّق خالعها بغير قصد الطلاق بل بقصد الفسخ أي حَلّ النكاح فتصير الزوجة بالخلع بائنًا، ثم تفعل المحلوف عليه فلا يقع الطلاق به، ثم يعمل عقدًا جديدًا بطريق وليّها الوليّ الخاص أو غيره إن لم يتيسّر العقد من طريق الولي الخاص كأن يجري الحاكم العقد أو المحكم الذي يحكمه الزوجان أي يجعلانه حاكمًا في قضية تزويجهما فيكون في حكم الولي الخاص الأصلي، وشرط هذا المحكم أن يكون عدلا. وهذا المَخْلَص المذكور لا يتأتّى على مشهور مذهب الشافعيّ، لكن يصح على القول القديم وعلى قول قاله الشافعي في كتاب أحكام القرءان فلا بأس بالعمل به، فينبغي إرشاد من يخشى منه أن يعاشر زوجته بعد وقوع المعلّق به إلى هذا المخلص، لأنّ كثيرين يعدلون إلى المعاشرة بالحرام بعد وقوع المعلق الذي هو ثلاث من دون أن يتزوجها زوج غيره، وبعضهم يعدلون إلى طريق لا ينفعهم وهو أنّهم يتّفقون مع شخص يُجرى له عليها العقد بعد وقوع الثلاث، ثمّ يشترطون عليه أن لا يجامعها، ويحتجُّون بأن بعض المجتهدين من التابعين يجيز ذلك، وذلك المجتهد يشترط أن لا يكون الزوج الثاني يقصد بذلك إحلالها للأول.
فهؤلاء الذين يرشدون النّاس إلى هذا الأمر الفاسد يغشُّون النّاس الذين يقصدونهم للاستفتاء، لأنّهم لم يوافقوا ذلك المجتهد، بل كان عملهم هذا حرامًا عند جميع المجتهدين، فلا وافقوا الجمهور ولا وافقوا هذا المجتهد الذي شذَّ؛ قال بعض أكابر الحنفيّة وهو صدر الشريعة فيمن أخذ بقول ذلك المجتهد: مَنْ فعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؛ وإنما لم يعتبر قول هذا المجتهد لأنّه خالف حديثًا صحيحًا باتّفاق علماء الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: “أتريدين أن ترجعي إلى رِفَاعةَ، لا تحلّين له حتى تذوقي عُسَيْلَته ويذوق عُسَيْلَتك”، أي لا يحلّ لك أن ترجعي للزوج الأول إلا بعد أن يجامعك هذا الثاني، وهو حديث صحيح ثابت مشهور رواه البخاري، فالفتوى بخلافه لا عبرة بها لأن المجتهد إذا خالف قوله نصًّا أو حديثًا صحيحًا باتفاقٍ لا يقلّد في اجتهاده، ولو كان قاضيًا قضى بذلك وجب على غيره من القضاة أن ينقض حكمه. ونسأل الله أن يثّبتنا على سبيلٍ وسُنَّة.
الطلاق
الطلاق معرفة أحكامه مهمّة جدًّا لأنّ كثيرين من الناس يحصل منهم الطّلاق على زوجاتهم ولا يدرون أنّهن طَلَقْن فيعاشرونهنّ بالحرام.
والطلاق قسمان: صريح وكناية.
فالصريح ما لا يحتاج إلى نيّة يقع الطلاق به نوى أو لم ينوِ، وهو خمسة ألفاظ: الطلاق، والفِراق، والسَّراح، والخلع، ولفظ المفاداة من الخلع، واللفظ الخامس قول الشخص: نعم في جواب من أراد منه أن يطلِّق زوجته الآن، فنعم هنا كأنّها ألفاظ الطلاق الأربعة الأُول التي وردت في القرءان، وأمّا من قال: نعم في جواب من أراد أن يستخبر يكون إقرارًا بالطلاق، أي أنّه سبق له أن طلّقها وليس معناه الآن أُطلِّقها، وإن جُهل مراد القائل حُمل على الاستخبار.
والكناية هو ما لا يكون طلاقًا إلا بنيّة كقوله: أنت خلية، أو برية، أو بائن، أو بَتّة، أو بَتْلَة، أو اعتدِّي، وكذلك من الكناية: اخرجي، سَافري، تستري، لا حاجة لي فيك، أنت وشأنك، سلام عليك، لأنّ هذه الألفاظ تحتمل الطلاق وغيره احتمالا قريبًا.
فمن أتى بالصريح وقع الطلاق نوى به الطلاق أم لم ينوِ، ومن أتى بألفاظ الكناية فلا يقع الطلاق إلا أن ينوي به الطلاق وتكون النيّة مقرونة بأوّلها.
والطلاق إن كان ثلاثًا بلفظ واحد أو في أوقات متفرّقة حتى لو قال: أنتِ طالق ونوى به الثلاث فهو طلاق ثلاث لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره بعد عدة منه وعدة من الزوج الآخر، فمن قال لزوجته: أنتِ طالقٌ ثلاثًا طَلَقَت ثلاثًا وإن قال: أنتِ طالق، أنتِ طالق، أنتِ طالق ولم ينوِ به تأكيد الطلقة الواحدة فهو طلاقٌ ثلاث، وإن نوى به تأكيد الطلقة الواحدة وهي الأولى فلا يُعدُّ طلاقًا ثلاثًا بل يعدُّ طلاقًا واحدًا. وتصح إشارة الأخرس كأن قيل له طلّق امرأتك فأشار بثلاثة أصابع فصريحة، ثم إن كانت إشارته يفهمها كلُّ أحد فهي صريحة وإن اختصّ بفهمها الفطنُ فكناية تحتاج إلى نيّة. وأمّا الناطق إذا اقتصر على الإِشارة كأن قالت له طلِّقني فأشار بيده أن اذهبي فلغوٌ.
وكثير من الناس يجهلون هذا فيرجعون إلى زوجاتهم إذا أوقعوا طلاقًا ثلاثًا بلفظ واحد يظنُّون أنّه طلاق واحد وأنّه يجوز لهم أن يرتجعوهن قبل مضيّ العدة بلا عقد جديد ويظنُّون أنّه بعد مضي العدة يكفيهم تجديد العقد فهؤلاء يعاشرون أزواجهم بالحرام. ولا فرق في الطلاق بين أن يكون منجزًا وبين أن يكون معلّقًا بشىء فإذا قال: أنتِ طالق إن دخلت دار فلان أو إن فعلت كذا فدخلت أو فعلت ذلك الشىء وقع الطلاق، فإن كان قال: إن دخلت دار فلان فأنتِ طالق بالثلاث فدخلت كان ثلاثًا، فتحرم عليه فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره. ولا يجوز إلغاء هذا الطلاق، ولا عبرة برأي أحمد بن تيمية الذي خرق به الإِجماع في قوله: إنّ الطلاق المعلّق المحلوف به لا يقع مع الحِنث وليس عليه إلا كفّارة اليمين، فرأيُ ابن تيمية هذا خلاف الإِجماع، وقد نقل الإِجماع على هذا الحكم الفقيه المحدّث الحافظ الثقة الجليل محمّد بن نصر المَرْوَزي وجماعة غيره.
والطلاق يختصُّ بأحكام عن فرقة الفسخ، وفرقة الخلع، وفرقة الإِيلاء وهو الذي يحلف على أن لا يجامع امرأته أكثر من أربعة أشهر أو يطلق بلا تحديد، وفرقة الحكميْن.
وفرقة الفسخ أنواع:
1. فرقة إعسار أي عجز عن المهر أو النفقة؛ فإِذا أعسر الزوج بهما بعد إمهاله ثلاثة أيّام جاز الفسخ أي فسخ عقد النكاح.
2. وفرقة لعان.
3. وفرقة عَتِيقَة بأن كانت الأمة متزوجة بشخص ثم أعتقت.
4. وفرقة عيوبٍ كأن وجدها برصاء أو مجنونة.
5. وفرقة غرور.
6. وفرقة وطء شبهة كأن وطىء أم زوجته أو ابنتها بظن الزوجية، وكأن سُبِيَ الزوجان الحرّان أو أحدهما قبل الدخول أو بعده وذلك بسبب الكفر.
7. وفرقة إسلام من أحد الزوجين.
8. وفرقة ردّة من أحدهما.
9. وفرقة ملكِ أحد الزوجين الآخر.
10. وفرقة عدم الكفاءة.
11. وفرقة انتقال من دِينٍ إلى ءاخر كانتقال أحد الزوجين من اليهوديّة إلى النصرانية.
12. وفرقة رضاع.
ثمَّ الطلاق إمّا جائز سنّي وهو ما خلا عن الندم واستعقب الشروع في العدّة وكان بعد الدخول وهي ممن عدّتها بالأقراء وكان في طهر لم يطأها فيه ولا في حيض قبله، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [1] ﴾ [سورة الطلاق] أي في قُبُل عدتِهنَّ أي طلاقًا يستعقب العدّة، وفي البخاري ومسلم أن ابن عمر طلّق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: “مُرْه فليراجعها، ثمّ ليمسكها حتى تطهر ثمّ تحيض ثمّ تطهر، فإن شاء أمسكها وإن شاء طلّقها قبل أن يجامع، فتلك العدّة التي أمر الله أن يطلّق لها النّساء” أي أذن.
وإما بدعي كأن يطلِّق بعد الدخول في حيض أو نفاس، أو في طهر وطئها فيه ولم يظهر بها حمل.
وإنّما كان طلاق الحائض والنفساء بدعيًّا لأنها تتضرّر بطول مدة الانتظار، وأمّا الثاني فإنه يؤدّي إلى الندم عند ظهور الحمل، لأن الإنسان قد يطلّق الحائل دون الحامل وعند الندم قد لا يمكنه التدارك فيتضرّر هو والولد. وإما لا ولا أي لا يسمى سنيًّا ولا بدعيًّا وهو أن يطلّقها قبل الدخول، أو طلّق غير بالغة، أو طلّق ءايسة، أو طلّقها حاملًا منه، وكذلك طلاق الإِيلاء، وطلاق الحكمين، وفرقة المختلِعة والمتحيرة وهي المستحاضة التي لا تعرف وقت ابتداء الدم ولا قدره، فطلاقهنَّ لا يدخل في السنيّ ولا في البدعي.
ولا فرق بين طلاق الجِد وطلاق المزح لقوله صلى الله عليه وسلم: “ثلاث جِدُّهن جِدٌّ وهزلهن جِدٌّ: النكاح والطلاق والرجعة” رواهُ أبو داود في السنن. فإذا حصل النكاح بشروطه وكان الولي والزوج مازحين ثبت النكاح، وكذلك الطلاق إن كان الزوج والزوجة مازحين أو أحدهما جادًّا كأن طلبت الزوجة الطلاق بجدّ وهو أوقعه بجدّ، أو كانا مازحين أو كان أحدهما مازحًا فقد ثبت الطلاق، فإن كان الطلاق واحدًا أو اثنين تصح الرجعة قبل انتهاء العدة بقول: أرجعتك إلى نكاحي ونحوه، فإن انتهت العدّة قبل أن يرتجعها لا تحلّ له إلا بعقد جديد بوليّها وشاهدين مسلمين: والجِد خلاف الهزل وهو _ بكسر الجيم _ لأنه _ بفتح الجيم _ لا يأتي لهذا المعنى بل معناه الغِنى، ويطلق الجَد _ بالفتح _ على العظمة قال الله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا [3] ﴾ [سورة الجن]، والجَدّ الذي هو أبو الأب أو أبو الأم.
والفسخُ لا يحصر بعدد بخلاف الطلاق فإنّ نهايته ثلاث، أمّا الفسخ لو فسخ النكاح ثلاث مرّات أو أكثر لا يحتاج إلى أن تتزوّج المرأة بزوج ءاخر، إنما يحتاج إلى تجديد العقد.
واحتجّ القائلون بأن الثلاثة إذا أوقعت بلفظٍ واحدٍ طلقةٌ واحدة بحديث مسلم أن ابن عبّاس قال: “كان الطلاق طلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر وصدر من خلافة عمر واحدًا، ثم قال عمر: إنّ الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم”، ولا حجّة لهم فيه لأمور:
1. أحدها: أنّ هذا الحديث قال عنه الإِمام أحمد: شاذ، والشاذ لا يُحتجّ به.
2. والثاني: أن ابن عبّاس ثبت عنه أنّه أفتى بوقوع الثلاث بلفظٍ واحدٍ ثلاثًا، روى ذلك عنه ثمانية من كبار أصحابه الثِّقات كما بيَّن البيهقي ذلك في السنن الكبرى، والحديث إذا خالفه عمل الراوي لا يحتجّ به عند بعض المحدّثين، وعلى ذلك أبو حنيفة وأتباعه، وبعيد أن يروي عبد الله بن عبّاس هذا الحديث على حسب ظاهره مع حمله على الظاهر ثم يفتي بخلافه.
3. والثالث: أن أبا بكر بن العربي قال في كتابه القَبَس: كانت البتةُ في عهد رسول الله وأبي بكر وصدر من خلافة عمر واحدةً، ثم قال عمر: إِنَّ الناس استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناةُ فلو أمضيناه عليهم فأمضى عليهم، وعزا هذا اللفظ لمسلم ولعل ذلك في بعض نسخ مسلم عند المغاربة.
4. والرابع: أنَّه مؤول بوجوه ذكرها الحافظ ابن حجر منها: أن بعض الرواة رواه عن ابن عبّاس بالمعنى على حسب ما فهمه، ليس باللفظ الذي قاله ابن عبّاس، فسقط الاستدلال به على جعل الثلاث بلفظ واحد طلاقًا واحدًا.
وبعض هؤلاء المحرّفين للحكم الشرعي في مسئلة الطلاق قال في شخص طلَّق طلقتين بلفظٍ واحد ثم طلَّق بعد مدة طلقة: هذا طلاقان ليس ثلاثًا، وادّعى بعضهم أنّ في قولِ الله تعالى: ﴿الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ﴾ [سورة البقرة] دليلًا على ما زعموه، قالوا: لا يتم الطلاق الثلاث بمرَّة واحدة، والجواب أنّ قوله تعالى: ﴿الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ﴾ فيه تقديرٌ، أي الطلاق الذي بعده رجعة مرَّتان بقرينة ما بعد ذلك من قوله: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، ويلزم على ما ذهب إليه هؤلاء أَنَّ الطلاق لا يصح أصلًا إلا بمرتين وهذا ظاهر الفساد، وإنما تأويل هذه الجملة ﴿الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ﴾ عدد الطلاق الذي بعده رجعة مرتان، فيكون هنا تقديرُ مضافٍ وهو لفظ عدد فيطابق الخبر المبتدأَ، لأنّ العدد يطلق على الاثنين والثلاثة وما بعد ذلك.
الرّجعة
الرجعة هي: ردّ المرأة إلى النكاح من طلاق غير بائن في العدة.
والطلاق الذي بعده رَجعةٌ مرتان، لقولِهِ تعالى: ﴿الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [229 ﴾ [سورة البقرة]. فمن طلّق امرَأتَه واحدة أو اثنتين فله مراجعتها ما لم تنقض عدتها، كأن يقول لها: أرجعتك إلى نكاحي، أو يقول إن لم تكن حاضرة: أرجعتُ زوجتي إلى نكاحي، فإن انقضت عدّتها لم تحلَّ له إلا بعقدٍ جديد بولي وشاهدين.
ولا يشترط في الرجعة الإِشهاد، لكن الإِشهاد أحسن.
العدّة
العدة هي: مدة تتربص فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها أو للتعبُّد أو لتفجّعها على زوج.
والمعتدّة على ضربين:
* متوفى عنها زوجها.
* وغير متوفى عنها كالمطلقة والمختلعة.
فالمتوفى عنها زوجها إن كانت حاملًا تنتهي عدتها بوضع الحمل، وإن كانت غير حامل فعدّتها أربعة أشهر وعشرة أيام.
وغير المتوفى عنها زوجها إن كانت حاملًا فعدّتها بوضع الحمل، وإن كانت غير حامل وهي من ذوات الحيض فعدتها ثلاثة أطهار. والمطلّقة في طهر يعتبر هذا الطهر من الثلاثة. والمطلّقة قبل الدخول بها لا عدة عليها، وأما الآيسة فعدّتها ثلاثة أشهر قمرية.
ويجب للمعتدة الرجعية كالمطلقة طلقة أو اثنتين السكنى والنفقة، ويجب للبائن كالمطلقة بالثلاث السكنى دون النفقة إلا أن تكون حاملًا.
ويجب على المتوفى عنها زوجها الإحداد وهو الامتناع عن الزينة والطيب، وملازمة البيت إلا لحاجة. ولا يحرم عليها مقابلة الرجال كما شاع عند كثيرٍ من العوامّ وإن كانوا غير محارم؛ وإنما يحرم عليها أن تكشف شيئًا من عورتها أمامهم، وأن تختلي بأحدهم، فإن لم يكن خلوة ولا كشف عورة جاز لها مقابلتهم والتحدث إليهم فيما لا معصية فيه.
مسئلة مهمة: يجوز للمرأة المعتدة للوفاة وغيرها إجماعًا أن تنظر في المرءاة، وأن تجلس على شرفة البيت، وأن تنظر إلى الشارع، ومن حَرَّم ذلك فإنه يكفر إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو مثلَه.
الرّضاع
إذا أرضعت أنثى بلغت تسع سنين بلبنها ولدًا صار الرضيع ولدها من الرضاع بشرطين:
أحدهما: أن يكون له من العمر دون الحولين، فإن بلغ حولين وشرب بعدهما لم يحرّم هذا الإرضاع.
الثاني: أن ترضعه خمس رضعات متفرقات عرفًا. فإذا قطع الرضيع الارتضاع بين كل من الخمس إعراضًا عن الثدي تَعدَّدَ، وكذلك لو قطعت عليه المرضعة بشغل وأطالته ثم عاد؛ ولو قطعه للهو أو نحوه كنومة خفيفة، أو تنفس، أو ازدراد ما جمعه في فمه وعاد في الحال لم يتعدد، بل الكل رضعة واحدة؛ ولو شُك في رضيع أرَضِع خمسًا أو أقل، أو هل رضع في حولين أو بعدهما فلا تحريم.
فإذا حصل الإرضاع بالشروط المذكورة صارت المرضعة أمًّا للرضيع وصار زوجُها أبًا له، ويصير أخو زوجها عمًّا له.
ويحرم على المرضَع أن يتزوج أمه من الرضاعة، ويحرم عليه أصولُها كأمها وجدتها، وفروعُها كبنتها وبنت ابنها. ويحرم عليها أن تتزوج ابنها من الرضاع، وفروعَه كابنه وابن ابنه، ولا يحرم عليها من كان في درجته كأخيه، ولا أصولُه كأبيه وجدّه.
نفقة الزوجة
يجب على الزوج نفقة زوجته الممكّنة نفسَها له ولو كانت كافرة أو مريضة، وهي:
* مُدّا طعام من غالب قوت البلد لكل يوم على موسر.
* ومد واحد على معسر.
* ومد ونصف على متوسط.
وعلى الزوج طحنه وعجنه وخبزه.
* وعليه من الأُدْم وهو ما يؤكل بالخبز أُدْمُ غالب البلد، ويختلف بالفصول؛ ويقدِّرُ الأُدْمَ القاضي باجتهاده، ويتفاوت بين موسر وغيره.
* ويجب لها كسوة تكفيها، وءالة تنظيف.
* وعلى الزوج عند المالكية أجرة القابلة.
وتسقط النفقة بنشوز الزوجة.
فصلٌ: يجب للمرأة المطلّقة على زوجها متعة، والمتعة مال يعطى للزوجة المطلقة بغير سبب منها.
وليست المتعة مقدارًا معيّنًا، ولكن يستحب أن تكون ثلاثين درهمًا، وأن لا تبلغ نصف مهر المثل؛ ويجزىء ما يتراضى عليه الزوجان ولو كان قليلا، فإن تنازعا قدّره القاضي باجتهاده معتبرًا حالهما.
الحضانة
الحضانة هي كفالة الطفل وتربيته، ولها شروط منها:
1. الحرية.
2. والعقل.
3. والإِسلام، فيشترط أن تكون الأم مسلمة إن كان الطفل مسلمًا، وكذلك الأب. 4. والأمانة، فالفاسق لا حق له بالحضانة.
والأولى بالحضانة الأم إن كان لها ولد وهو في سن الرضاعة، هذا إن لم تتزوج، ثم بعد الأم أمَّهاتُها اللاتي يدلين بالإناث الأقرب فالأقرب، ثم بعد الأمهات الأبُ، ثم أمهاتُه، ثم الجدّ، ثم أمهاته المدلياتُ بإناث الأقرب فالأقرب، ثم الإخوة من الذكور والإناث، ثم الخالات الشقيقات، ثم الخالات لأب، ثم الخالات لأم، ثم ولد الولد للأبوين، ثم ولد الأب، ثم بنات ولد الأم، ثم فرع الجد للأصلين أي العم والعمة، ثم العم للأب والعمة للأب، ثم العمة للأم، ثم بنت الخالةِ، ثم بنت العمة، ثم ولد العم لغير الأم.
وإذا ميز الطفل واختار أباه يأخذه وإلا بقي عند أمه، فإذا أخذه الأب فالأم لها أن تزوره، ولا يجوز للأب أن يمنعها إلا إذا كانت فاسقة يخشى أن تعلّم الطفل الفساد.
باب خير متاع الدنيا المرأة الصالحة
روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة”.
باب الوصية بالنساء
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فإذا شهد أمرًا فليتكلم بخير أو ليسكت، واستوصوا بالنساء، فإن المرأة خُلقت من ضلع، وإن أعوج شىء في الضلع أعلاه، إن ذَهَبْتَ تُقيمُهُ كَسَرْتَهُ، وإن تركتَهُ لم يزل أعوجَ، استوصوا بالنساء خيرًا”.
باب تحريم امتناع الزوجة من فراش زوجها
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها، لعنتها الملائكة حتى تصبح”.
باب صوم المرأة بإذن زوجها تطوعًا
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه”.
باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه
روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تَأْذَنَ في بيته إلا بإذنه”.
باب المرأة راعية في بيت زوجها
روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، والأمير راع، والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”.
باب لزوجك عليك حق
روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا عبد الله ألم أُخْبَر أنك تصوم النهار وتقوم الليل”؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: “فلا تفعل، صُم وأَفطر وقُم ونم فإن لجسدك عليك حقًّا، وإن لعينيك عليك حقًّا، وإن لزوجك عليك حقًّا”.
باب في طاعة المرأة لزوجها
روى ابن حبان عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا صلت المرأة خَمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها دخلت من أي أبواب الجنة شاءت”.
باب في بيان خيار الناس
روى ابن حبان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أَكمَلُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا، وخياركم خياركم لنسائهم”.
خاتمة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أعظم الناس حقًّا على المرأة زوجها، وأعظم الناس حقًا على الرجل أمه” رواه الحاكم وغيره.
في هذا الحديث بيان عظم حقّ الزوج على الزوجة، لذلك حرّم الله عليها أن تخرج من بيته بلا إذنه لغير ضرورة، وحرّم عليها أن تُدخل بيته من يكره، سواء كان قريبًا لها أو لا، وحرّم الله عليها أيضًا أن تمنعه حقّه من الاستمتاع وما يدعو إلى ذلك من التزين إلا في حالة لها فيها عذر شرعي، والعذر كأن تكون مريضة لا تطيق ما يطلب منها، أو تكون حائضًا أو نفساء وقد طلب منها الجماع أو الاستمتاع بما بين سرتها وركبتها بغير حائل، أو تكون في حالة تفوتها الصلاة إن أجابته إلى ما طلب منها.
ولا يجب على الزوجة أن تطيع زوجها في ما فيه معصية الله تعالى، فإن طلب منها أن تقدّم له الخمر ليشربها فلا تطيعه، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
تنبيه: لا صِحّةَ لِمَا شاع بين كثير من الناس من أن المرأة تطلق من زوجها إذا أتاها في دبرها، لكن هذا حرام لا يجوز فعله.
وللزوجة حقوق على زوجها أيضًا من جملتها: أن يهيء لها النفقة والمسكن والملبس، وأن لا يضربها بغير حق ولا يظلمها، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [19] ﴾ [سورة النساء].
لكن إذا كانت المرأة ناشزة بأن كانت تمنع زوجها حقّه من الاستمتاع بها أو تخرج من بيته من غير إذنه بلا عذر شرعي تسقط نفقتها، وينبغي في هذه الحالة أن يعظها زوجها، ويذكّرها بما يجب عليها نحوه، ويأمرها بتقوى الله.
ويجب على الزوج أن يعلّمها ما هو فرض عليها من أمور دينها، أو يؤمّن لها من يعلّمها، أو يسمح لها بالخروج إلى مجالس العلم الشرعي إن لم تكن تعرف ذلك، ويأمرها بالمعروف من أداء الصلوات الخمس والمثابرة عليها، وصيام رمضان، وستر عورتها عن الأجانب، ونحوها.
وأما ما يفعله الزوج لزوجته وما تفعله الزوجة لزوجها زيادة على الواجب عليهما من الخير فهو من باب الإحسان، وفيه أجر لمن أحسن النيّة.