إنَّ الحَمدَ لله نحمدُهُ ونستعينهُ ونستهديهِ ونشكرُهُ ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنَا ومن سيئاتِ أعمالنا، مَن يهدِ الله فلا مُضِلَّ لهُ ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلـهَ إلا الله وحدَهُ لا شريكَ لهُ خالقُ الليلِ والنهارِ، شديدُ البطشِ العزيزُ القهّار، الكريمُ الغفّارُ. وأشهدُ أنََّّ سيّدَنا محمّدًا عبدُهُ ورسولُهُ المختارُ صلّى الله عليهِ وعلى ءالهِ الأخيارِ وصحابَتِهِ الطيبينَ الأطهارِ صلاةً وسلامًا يتعاقبانِ تَعاقُبَ اللّيلِ والنهارِ.
أمّا بعدُ عبادَ الله فإنّي أوصيكُم ونفسي بتقوَى الله الذي تَنَزّه عنِ الكيفِ والشّكلِ والصّورةِ والزّمانِ، الذي لا يحويهِ جهةٌ ولا يَحُدُّهُ مكانٌ، الذي أَنْزَلَ على قلبِ نبيّهِ وحبيبِهِ المصطفى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ *﴾ [سورة الانبياء] .
أيّها الإخوةُ، إنّ أمورَ الدّينِ ليست في مرتبةٍ واحدةٍ بل بعضُها أهمُّ مِنْ بعضٍ، والعبرةُ بموافَقَةِ الأعمالِ شريعةَ رسولِ الله وهذا لا يُعرَفُ إلا بالعلمِ، فالعلمُ هوَ الذي يُعْرَفُ بهِ ما هوَ الأفضلُ ثُمَّ الأفضلُ منَ الأعمالِ، وقد قالَ الإمامُ النوويُّ رحمَهُ الله: «إِنَّ الاشتغالَ بالعِلمِ أَوْلَى ما أُنْفِقَتْ فيهِ نَفَائِسُ الأوقاتِ». أي أفضَلُ ما شُغِلَتْ بهِ الأوقاتُ الطَّيّبَةُ.
فالعِلْمُ حياةُ الإسلامِ، العلمُ هوَ السّلاحُ لِدَفْعِ شُبَهِ وتَشْوِيشَاتِ المُفْسِدِينَ مِنَ المشبّهة الذينَ يُشَبّهونَ الله تعالى بخلقِهِ، وغيرهم من أصحاب العقائد الزائغة فالرجلُ الذي لا يَتَسَلَّحُ بسِلاحِ العلمِ مَهْمَا كانَ مُتَعبّدًا ومهْمَا كانَ مُكْثِرًا للذّكْرِ فهوَ عُرْضَةٌ لأنْ تُشَوّشَ المُشبّهةُ عليهِ. لذلكَ قالَ إمامُ أهلِ السُّنَّةِ أبو الحَسَنِ الأشعريُّ رضيَ الله عنهُ: «أفضَلُ العلمِ العِلمُ بالله ورسولِهِ وأمورِ دينِه».
إن أهمَ العلومِ علمُ العقيدةِ، فقَدْ قالَ الإمامُ النوويُّ وغيرُهُ منَ العلماءِ: «يجِبُ على طريقِ فرضِ الكفايةِ أنْ يَكُونَ فِي المُسْلِمِينَ مَنْ يقومُ ببيانِ عقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ بدَلائِلِها العقليةِ والنقليَّةِ لِدَفْعِ تَشْكِيكَاتِ المُشَبّهَةِ الذينَ يُشَبّهُونَ الله بخَلْقِهِ ويَجْعَلُونَ الله جِسْمًا يَسْكُنُ ويَتَحَرَّكُ ويَنْزِلُ ويَطْلَعُ ويَقُولُونَ إنَّهُ مُتَحَيّزٌ في جِهَةِ فَوْقُ».
وَلْيُعْلَمْ إِخْوَةَ الإيمَانِ أَنَّ مَنْ ماتَ على عَقِيدَةِ التَّشبِيهِ ماتَ على خِلافِ عقيدةِ المسلمينَ فهذا لا يَشَمُّ رائحةَ الجنةِ بَلْ يَدْخُلُ إلى النَّارِ ولا يُخرَجُ منها أبدًا كمَا أخْبَرَ سبحانَهُ وتَعَالى في القرءانِ بقولِهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا *خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا *﴾ [سورة الأحزاب] .
إن الثَّبَات عَلَى عقيدةِ الحقّ هوَ السَّبيلُ للنجاةِ في الآخِرَةِ، لأَنَّ الإيمانَ هُوَ الأصلُ الذي لا تَصِحُّ الأَعْمَالُ بدونِهِ.
ومِنْ أصولِ الإيمانِ أَنْ يَعْتَقِدَ المُسْلِمُ أنَّ الله تعالى لا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنَ الموجوداتِ، لا يُشْبِهُ الإنسانَ ولا النَّبَاتَ وَلا الجَمَادَاتِ ولا الملائكةَ ولا الجِنَّ، لا يُشْبِهُ الهواءَ ولا الرُّوحَ، سُبْحانَهُ هوَ خالِقُ الأشياءِ كلّها فلا يُشبِهُ شيئًا مِن خلقِهِ.
إخوةَ الإيمانِ، إنَّ علمَ التوحيدِ يُقالُ لهُ علمُ الكَلامِ وهوَ علمٌ يُقَرّرُهُ أهلُ الحقّ وليسَ مَذْمُومًا كما تَظُنُّ المُجَسّمَةُ فإنَّ من السَّلَفِ الصالح مَنِ اشتَغَلَ بهِ تأليفًا وتَعْلِيمًا وتَفْهِيمًا، ومِنْهُم مَنْ عرَفَهُ لنفسِهِ ولَمْ يَشْتَغِلْ بهِ تأليفًا وتفهيمًا لأنَّ الحاجَةَ للتَّأليفِ فِي أيامِهِ كانَتْ أقَلَّ، ثُمَّ اشْتَدَّتِ الحاجَةُ إلى الاشْتِغَالِ بِهِ تأليفًا وتفهيمًا، وهَذَا ليسَ فيهِ ما يُخَالِفُ شرْعَ الله بلْ هوَ مَحْضُ الدّينِ وهوَ أشرَفُ علومِ الدّينِ لأَنَّهُ يُعْرَفُ بهِ ما يَجِبُ لله منَ الصّفاتِ الأزليَّةِ التِي لا بِدَايَةَ لَهَا والتِي افْتَرَضَ الله مَعْرِفَتَها على عِبَادِهِ، ويُعرفُ به ما يستحيل على الله منَ النَّقَائِصِ، ومَا يَجُوزُ علَى الله معَ ما يَتْبَعُ ذلكَ مِن أمورِ النُّبُوَّةِ وأمُورِ الآخِرَةِ.
وقَدْ ألَّفَ الإمَامُ أبُو حنيفَةَ فِي عِلمِ الكَلاَمِ خمْسَ رسائِلَ وكَانَ يذهَبُ من بغْدادَ إلى البَصرَةِ لِمُنَاظَرَةِ المُشبّهَةِ والمَلاحِدَةِ. وكذلك الإمامُ الشافعيُّ رضيَ الله عنهُ كانَ يُتْقِنُ هذَا العِلْمَ. كما اشْتَغَلَ بهذَا العلمِ عمَرُ بنُ عبدِ العَزِيزِ الخليفَةُ الرَّاشِدُ وعمِلَ رسالَةً يُبَيّنُ فيهَا مذْهَبَ أهلِ الحَقِّ، كذَلِكَ الحَسَنُ البِصرِيُّ الذِي هُوَ مِن أكابِرِ التَّابعينَ، وتَكَلَّمَ فيهِ الإمَامُ مالِكٌ وغيرُهُ مِن أئِمَّةِ السَّلَفِ وقَدْ أحسَنَ في ذلكَ مَنْ قالَ:
عَابَ الكَلامَ أُنَاسٌ لا عُقُولَ لَهُمْ
وَمَا عَليهِ إذَا عَابُوهُ مِن ضَرَرِ
مَا ضَرَّ شَمْسَ الضُّحَى فِي الأُفْقِ طَالِعَةً
أَنْ لا يَرَى ضَوْءَها مَنْ لَيْسَ ذَا بَصَرِ
هذا وأستغْفِرُ اللهَ العظيمَ لي ولَكُمْ.
الخطبةُ الثانيةُ:
إنًّ الحَمدَ لله نَحْمدُهُ ونستعينُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ ونستهديهِ ونشكرُهُ ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنَا ومن سيئاتِ أعمالنا، مَن يهدِ الله فلا مُضِلَّ لهُ ومن يُضلِل فلا هاديَ له، والصلاةُ والسلامُ على سيدِنا محمَّدِ بنِ عبدِ الله وعلَى ءالِهِ وصحبِهِ ومَن والاهُ.
أمَّا بعدُ عبادَ الله، فإني أُوصيكُم ونفسِي بتقوَى الله العليّ القديرِ القائِلِ في مُحْكَمِ كتابِهِ: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ *﴾ [سورة محمد] .
﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ *﴾ قَدَّمَ الله الأَمْرَ بمَعْرِفَةِ التَّوحيدِ على الأَمرِ بالاسْتغفَارِ والسَّبَبُ فيهِ أنَّ معرفةَ التوحيدِ إشارةٌ إلى علمِ العقيدةِ، لذلكَ قالَ الشافعيُّ رضيَ الله عنهُ: «أَحْكَمْنَا ذَاكَ قبلَ هذَا» أَيْ علمَ التوحِيدِ قبلَ فُرُوعِ الفِقْهِ.
ولذلكَ قالَ الإمامُ أبو حنيفَةَ رضيَ الله عنهُ: «اعْلَمْ أنَّ الفقْهَ في الدينِ أفضَلُ منَ الفقهِ في الأحكامِ».
وإنَّمَا سُمّيَ علمَ التوحيدِ لأَشْهَرِ مَبَاحِثِهِ وهو توحيدُهُ تباركَ وتعالى في الذاتِ والصّفاتِ والأفعالِ وعدمُ مشابَهَتِهِ لشىءٍ من مخلوقاتِه.
إخوةَ الإيمانِ احْرِصُوا على حضُورِ مجالس تعليم العقيدة الإسلامية.
فَوَالله الواحِدُ منا لا يَقْوَى على جَمْرَةٍ من جَمَراتِ الدنيا فَكيفَ يَقْوَى على نارٍ وَقُودُها الناسُ والحِجَارَةُ؟! اللَّهم أجِرْنا منهَا يا رَبَّ العالمينَ.
فَوِقَايَةُ النفسِ والأهلِ من هذهِ النارِ تكونُ بتَعَلُّمِ ما أَوْجَبَ الله علينَا معرفَتَهُ من علمِ الدّينِ.
واعلَموا أنَّ الله أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ، أمرَكُمْ بالصلاةِ والسلامِ على نبيِهِ الكريمِ فقالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *﴾ اللّهُمَّ صَلّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا صلّيتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيم، وبارِكْ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ، إنّكَ حميدٌ مجيدٌ، يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ *يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ *﴾ ، اللّهُمَّ إنَّا دعَوْناكَ فاستجبْ لنا دعاءَنا فاغفرِ اللهُمَّ لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا، اللّهُمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ، ربَّنا ءاتِنا في الدنيا حسَنةً وفي الآخِرَةِ حسنةً وقِنا عذابَ النارِ، اللهُمَّ اجعلْنا هُداةً مُهتدينَ غيرَ ضالّينَ ولا مُضِلينَ، اللّهُمَّ استرْ عَوراتِنا وءامِنْ روعاتِنا واكفِنا مَا أَهمَّنا وَقِنا شَرَّ ما نتخوَّفُ. عبادَ الله إنَّ الله يأمرُ بالعَدْلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاءِ والمنكرِ والبَغي، يعظُكُمْ لعلَّكُمْ تذَكَّرون. اذكُروا الله العظيمَ يذكرْكُمْ، واشكُروهُ يزِدْكُمْ، واستغفروه يغفِرْ لكُمْ، واتّقوهُ يجعلْ لكُمْ مِنْ أمرِكُمْ مخرَجًا، وَأَقِمِ الصلاةَ.