إنّ الحمدَ للهِ نحمَدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونستهْدِيهِ ونشكُرُه ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا وسيّئاتِ أعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لهُ ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِي لهُ. وأشهدُ أنْ لا إلـهَ إلا اللهُ وأشهدُ أنَّ سيّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقرَّةَ أعينِنَا محمّدًا عبدهُ ورسولهُ وصفيُّه وحبيبُه، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلى كلّ رسولٍ أَرْسَلَهُ.
أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ فإنّي أوصيكُمْ ونَفْسِي بِتَقْوى اللهِ العلِيّ العَظيمِ القائِلِ في مُحْكَمِ التَنْزيل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ *﴾ [سورة الحشر] .
إخوةَ الإيمانِ، منْ أرادَ النجاحَ والفلاحَ فلْيَبَرَّ أبَوَيْهِ، فإنَّ مَنْ بَرَّ أبَوَيْهِ تَكونُ عاقِبَتُهُ حميدةً، فَبِرُّ الوالِدَيْنِ بَرَكَةٌ في الدُّنْيا والآخرةِ.
يقولُ ربُّ العِزَّةِ في مُحْكَمِ كتابِهِ: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً *﴾ [سورة البقرة] الآية.
ويقولُ تعالى في كتابِهِ العظيمِ: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً*﴾ [سورة النساء] .
ويقولُ تعالى في كتابِهِ العظيمِ: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً*﴾ [سورة الأنعام] .
ويقولُ تَعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً *﴾ [سورة الإسراء] الآية.
فكَمْ هوَ عظيمٌ بِرّ الوالدينِ، وكَمْ هوَ عظيمٌ بِرُّ الأمّهاتِ، وبر الآباء. واسمَعُوا مني هذِهِ القِصَّةَ.
يقولُ الرَّاوي: ذاتَ يومٍ شَعَرَتِ امرأةٌ بِدُوارٍ وسقَطَتْ على الأرضِ فسارعَ زوجُها وأخذها إلى الطبيب الذي قال لزوجها إنها حامل. تلكَ كانَتِ البِدايَةُ ومعها بَدَأَتْ معاناةُ الحملِ مِنْ شهرٍ إلى شَهْرٍ حتّى دخلَت المرأة في الشَّهْرِ التاسِعِ وءانَ أوانُ الوِلادَةِ، أَتَتِ القابِلَةُ وشَرَعَتْ في عَمَلِهَا وبدَأَ الطَّلْقُ يَشْتَدُّ والأُمُّ تَصْرُخُ حتّى وضَعَتِ الطّفْلَ وكانَ ذَكَرًا وهَدَأَتِ الأُمُّ ثمَّ ما لَبِثَتْ أنْ لَفَظَتْ أنْفاسَهَا الأَخيرةَ وماتَتْ، أي ماتَتْ بِجُمْعٍ أي بِسَبَبِ الوِلادَةِ فهِيَ شَهيدَةٌ، وتَزَوَّجَ الزوج بامْرَأَةٍ أُخْرَى تُعينُهُ في هذه الحياةِ. وشيئًا فشيئًا كَبِرَ هذا الطفلُ حتى أصبحَ في سنّ الثلاثين، وكانَ أبوهُ قدْ أَخْبَرَهُ بِقِصَّةِ ولادَتِهِ ووفاةِ أُمِّهِ فكانَ يَتَرَدَّدُ إلى المقبرةِ لزيارةِ أمِّهِ من حينٍ إلى ءاخرَ ويقرأُ لها شيئًا منَ القرءانِ، وكان يتمنى لو أنه رءاها ولو لمرة واحدة. في أحَدِ الأيّامِ تُوفّيَ أحدُ أقارِبِهِ فذهَبَ معَ والِدِهِ يُواسِيْهِ وانطلَقَتِ الجنازَةُ إلى المقبرَةِ ولم يكنْ متيسرًا سِوَى قَبْرٍ واحِدٍ هوَ ذاكَ القبرُ الذي ضمَّ هذهِ الأمَّ. بدأَ الحفّارُ يَعْمَلُ بِحَفْرِ القَبْرِ ثُمَّ أزالَ تِلْكَ البِلاطَةَ الكبيرةَ لِيَضَعَ الميتَ في القبرِ وهنا كانتِ المفاجأَةُ الكُبْرَى فقدْ وَجَدُوا هذهِ الأمَّ كما هيَ يَوْمَ دفَنوهَا منذُ ثلاثينَ عامًا لمْ يَتَغَيّرْ منها شىءٌ، وكانَتْ هذه المَرَّةَ الأولى التي يَرَى الولَدُ أُمَّهُ فَنَزَلَ إلى القَبْرِ وبَدَأَ يُقبّلُ وَجْنَتَيْها وهُوَ يَبْكِي وَسَطَ ذُهولِ الحاضرينَ الذينَ بدأوا بالتَّكبيرِ والتَّهْليلِ والبُكاءِ.
وتذَكَّرْ أخيرًا أيُّها الابْنُ أنَّكَ لَنْ تُوَفّيَ حقَّ أُمّكَ ولا بِطَلْقَةٍ واحِدَةٍ مِنْ ءالامِ الوِلادَةِ .
اللهمَّ إنَّا نَسْألُكَ العَفْوَ والعَافِيَةَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ .
هذا وأستغْفِرُ اللهَ العظيمَ لي ولَكُمْ.
الخطبةُ الثانيةُ:
إنَّ الحمدَ للهِ نحمَدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونستهْدِيهِ ونشكُرُه ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا وسيّئاتِ أعْمَالِنا مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لهُ ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِي لهُ، والصَّلاةُ والسلامُ على سيّدِنَا محمدٍ وعلى إِخْوانِهِ النَّبِيّينَ والمُرْسَلينَ وءالِ كلٍّ والصَّالِحِينَ.
أمّا بعدُ عبادَ اللهِ، فإنِّي أوصيكُمْ ونَفْسِي بِتَقْوى اللهِ وبالتمسّكِ بهديِ رسولِهِ الكريمِ عليهِ أفضلُ الصَّلاةِ والتَّسليمِ القائِلِ في حديثِهِ الشَّريفِ: «كلُّ الذًُّنوبِ يُؤَخّرُ اللهُ مِنْها ما شاءَ إلى يَوْمِ القيامَةِ إلاّ عقوقُ الوالدينِ فإنَّهُ يُعَجَّلُ لِصاحِبِهِ» رواهُ الحاكِمُ، أيْ يُعَجَّلُ لهُ في العقوبةِ، اللهُ يُعاقِبُهُ في الدُّنْيَا قبلَ يومِ القِيَامَةِ، فَكُلُّنَا مَأْمورٌ بِأَنْ يَبَرَّ والِدَيْهِ فإِذا أَمَرَ أحدُ الوالدينِ وَلَدَهُ بِأَنْ يَفْعَلَ أَمْرًا مُبَاحًا أوْ يَتْرُكَهُ وكانَ يَحْصُلُ لَهُما غَمٌّ إنْ خالَفهُمَا فَيَجِبُ عَلَيْهِ أنْ يُطيعَهُمَا في ذلِكَ، أمَّا إنْ أَمَرَهُ أَحَدُ والدَيْهِ بِمَعْصِيَةٍ فلا يُطِيعُهُ في ذلِكَ، فقدْ قالَ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم: لا طاعَةَ لِمَخْلوقٍ في مَعْصِيَةِ الخالِقِ . وبِرُّ الوالدَيْنِ المُسْلِمَيْنِ لا يكونُ فقطْ في حالِ حياتِهِمَا بلْ يكونُ أيْضًا بعدَ وفاتِهِمَا فالوَلَدُ إِنِ اسْتَغْفَرَ لِوَالِدَيْهِ المُسْلِمَيْنِ بعدَ مَوْتِهِمَا يَنْتَفِعَانِ بِهَذا الاسْتِغْفارِ ويَلْحَقُهُمَا ثوابٌ كبيرٌ فَيُعْجَبَانِ مِنْ أَيّ شَىءٍ جاءَهُمَا هذا الثَّوابُ فَيَقولُ الملَكُ: هذا مِنَ اسْتِغْفَارِ وَلَدِكُمَا لَكُمَا بَعْدَكُمَا.
إخوةَ الإيمانِ والإسلامِ يقولُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ثلاثُ دَعَواتٍ مُسْتَجاباتٌ لا شَكَّ فيهِنَّ دَعْوَةُ المَظْلومِ وَدَعْوَةُ المسافِرِ ودَعْوَةُ الوالِدِ على وَلَدِهِ» . هذا مَعْنَاهُ إنْ دَعَا عليهِ بِحَقّ، أمَّا إنْ دَعَا عليْهِ بِغَيْرٍ حَقّ فلا يَضُرُّهُ ذلِكَ. نَسْأَلُ اللهَ عزَّ وجَلَّ أنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الذينَ يَسْتَمِعونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعونَ أَحْسَنَهُ إنَّهُ على كُلّ شَىءٍ قَدير.
واعلَموا أنَّ اللهَ أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ، أمرَكُمْ بالصلاةِ والسلامِ على نبيِهِ الكريمِ فقالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *﴾ اللّهُمَّ صَلّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا صلّيتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيم، وبارِكْ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنّكَ حميدٌ مجيدٌ، يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ *يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ *﴾ ، اللّهُمَّ إنَّا دعَوْناكَ فاستجبْ لنا دعاءَنا فاغفرِ اللّهُمَّ لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا، اللّهُمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ، ربَّنا ءاتِنا في الدنيا حسَنةً وفي الآخِرَةِ حسنةً وقِنا عذابَ النارِ، اللّهُمَّ اجعلْنا هُداةً مُهتدينَ غيرَ ضالّينَ ولا مُضِلينَ، اللّهُمَّ استرْ عَوراتِنا وءامِنْ روعاتِنا واكفِنا مَا أَهمَّنا وَقِنَا شَرَّ ما نتخوَّفُ. عبادَ اللهِ إنَّ اللهَ يأمرُ بالعَدْلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاءِ والمنكرِ والبَغي، يعظُكُمْ لعلَّكُمْ تذَكَّرون . اذكُروا اللهَ العظيمَ يذكرْكُمْ، واشكُروهُ يزِدْكُمْ، واستغفروه يغفِرْ لكُمْ، واتّقوهُ يجعلْ لكُمْ مِنْ أمرِكُمْ مخرَجًا، وَأَقِمِ الصلاةَ.