إنَّ الحَمدَ للهِ نَحمدُهُ ونستعينُهُ ونستهديهِ ونشْكرُهُ ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنَا ومن سيئاتِ أعمالنا، مَن يهدِ اللهُ فهوَ المهْتَدْ ومَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا وأشهدُ أنْ لا إلـهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ ولا مثيلَ لهُ ولا ضِدَّ ولا نِدَّ لهُ، جلَّ ربي لا يُشْبِهُ شيئًا ولا يُشْبِهُهُ شىءٌ ولا يَحُلُّ في شىءٍ ولا يَنْحَلُّ منهُ شىءٌ ، ليسَ كمثلِهِ شىءٌ وهوَ السميعُ البصيرُ. وأشهدُ أنَّ سيدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقُرَّةَ أعيُنِنَا محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ وصفيّهُ وحبيبُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وعلى كلّ رسولٍ أرسَلَهُ.
بيني وبينَكَ يا حبيبُ فراسِخُ
أمَّا الغرامُ ففي الفؤادِ فراسِ
أي بيني وبينكَ يا محمدُ يا رسول الله فراسخُ أي مسافاتٌ بعيدةٌ. أمَّا حُبُّكَ فراسِخٌ أيْ مزروعٌ في فؤادي في قلبي.
بيني وبينَكَ يا حبيبُ فراسِخُ
أمَّا الغرامُ ففي الفؤادِ فراسِخُ
الصلاةُ والسلامُ عليكَ يا سيدي يا رسولَ اللهِ، يا حبيبَ اللهِ يا محمدُ، يا حِبَّ روحي وفؤادِي، الصلاةُ والسلامُ عليكَ يا أبا القاسِمِ، يا أبا الزهراءِ يا محمَّدُ، ضاقَتْ حيلَتُنا وأنتَ وسيلَتُنَا أدْرِكْنَا يا رسولَ اللهِ، أدركْنَا بإذنِ اللهِ. يا مَنْ برؤياكَ تطيبُ النُّفوسُ وتَقَرُّ العيونُ، وبذكْرِكَ تنْزِلُ الرَّحمَاتُ والبركاتُ، صلَّى عليكَ اللهُ كُلَّمَا ذكرَكَ الذّاكِرونَ وغَفَلَ عنْ ذِكْرِكَ الغافِلونَ، يا حبيبي يا رسولَ اللهِ.
أمّا بعدُ عُشَّاقَ محمَّدٍ فإني أحبكُمْ في اللهِ والذي خَلَقَ مُحَمَّدًا. وأوصيكُمْ ونفسي بتقوى اللهِ العليّ العظيمِ الذي أنزَلَ على قلبِ حبيبِهِ محمَّدٍ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ *﴾ [سورة المائدة] الآية.
إخوةَ الإيمانِ، لقدْ جعلَ اللهُ سبحانَهُ وتعالى منَ الأسبابِ المُعينَةِ لنا لتحقيقِ ما نرغب التَّوَسُّلَ بالأنبياءِ والأولياءِ في حالِ حياتِهِمْ وبعدَ مماتِهِم.
فالتوسّلُ هوَ طلبُ حصولِ منفعةٍ أوِ اندفاعِ مَضَرَّةٍ منَ اللهِ بذكرِ اسمِ نبيٍ أو وليٍ إكرامًا للمُتوَسّل بِهِ. الطلبُ منَ اللهِ لأنَّ الأنبياءَ والأولياءَ لا يخلقونَ مضرَّةً ولا مَنْفَعَةً، ولكنْ نحنُ نسألُ اللهَ بهمْ بجاههم رجاءَ تحقيقِ مطالبِنَا فنقولُ: اللهمَّ إنّي أسألُكَ بِجَاهِ رسولِ اللهِ أو بِحُرمةِ رسولِ اللهِ أنْ تقضيَ حاجَتي وتفرّجَ كَرْبي، والتوسُّلُ بالأنبياءِ والأولياءِ جائزٌ في حالِ حضرَتِهِمْ وفي حالِ غَيْبَتِهِمْ، ومُناداتُهُمْ جائزةٌ في حالِ غَيْبَتِِهِم وفي حالِ حضرتِهِمْ كما دَلَّتْ على ذلكَ الأدلَّةُ الشرعيَّةُ. فَرَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم علَّمَ الأعمى أنْ يتوسَّلَ بِهِ فتوسَّلَ الأعمى الضَّريرُ برسولِ اللهِ، توسَّلَ بحبيبِ اللهِ، توسَّلَ بأفضلِ خلقِ اللهِ فردَّ اللهُ تعالى إليهِ بصَرَهُ. فلقدْ علَّمَهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يقولَ: «اللهمَّ إني أسألُكَ وأتوجَّهُ إليكَ بنبيّكَ محمَّدٍ نبيِ الرحمةِ يا محمّدُ إنّي أتوجَّهُ بكَ إلى ربي في حاجَتِي لِتُقْضَى لي».
ثمّ هذا الأعمى لم يكنْ حاضِرًا في مجلسِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بدليلِ أنَّ راويَ الحديثِ عثمانَ بنَ حنيفٍ قالَ لَمَّا روَى حديثَ الأعمَى: «فواللهِ ما تَفَرَّقْنَا ولا طالَ بنا المجلسُ حتَّى دخلَ علينا الرجلُ وقدْ أبْصَرَ ».
فَمِنْ قولِهِ: «حتَّى دخلَ عليْنا» عَلِمْنا أنَّ هذا الرجلَ لم يكنْ حاضِرًا في المجلسِ حينَ توسَّلَ برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
اللهمَّ كمَا ءامنَّا بمحمدٍ ولم نَرَهُ، وصدَّقْنَاهُ ولم نَلْقَهُ، أَدْخِلْنا مُدْخَلَهُ واحْشُرْنَا في زُمْرَتِهِ وأوْرِدْنَا حوضَهُ واسْقِنَا بِكَأْسِهِ مَشْرَبًا صافِيًا رَوِيًّا هنيئًا لا نَظْمَأُ بعدَهُ أبدًا يا أرحمَ الراحمينَ.
واسمَعُوا إخوةَ الإيمانِ قولَ الفقيهِ المجتهدِ عليّ السُّبْكيّ في كتابِهِ «شفاءُ السَّقامِ»: «اِعْلَمْ أنهُ يجوزُ ويَحْسُنُ التوسلُ والاستعانةُ والتَّشَفُّعُ بالنبيِ صلى الله عليه وسلم إلى ربّهِ سبحانَهُ وتَعالى، وجوازُ ذلكَ وحُسْنُهُ منَ الأمورِ المعلومةِ لكلّ ذي دينٍ، المعروفَةِ مِنْ فعلِ الأنبياءِ والمرسلينَ وسِيَرِ السَّلَفِ الصالحينَ والعلماءِ والعوامّ مِنَ المسلمينَ، ولم يُنْكِرْ أحدٌ ذلكَ» أيْ منَ العلماءِ المُعْتَبَرِينَ.
وقالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ في «فتحِ الباري» ما نَصُّهُ: «وروَى ابنُ أبي شَيْبَةَ بإسنادٍ صحيحٍ مِنْ روايةِ أبي صالحٍ السَّمَّانِ عنْ مالكِ الدارِ قالَ: أصابَ الناسَ قحطٌ (أي مجاعةٌ) في زمَنِ عمرَ (أي في خِلافَتِهِ) فجاءَ رجل ٌ (منَ الصحابةِ) إلى قبرِ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: يا رسولَ اللهِ اسْتَسْقِ لأمَّتِكَ فإنهم قدْ هَلَكوا ، (معناهُ اطلُبْ مِنَ اللهِ المطَرَ لأُمَّتِك) فَأُتِيَ الرجلُ في المنامِ فقيلَ لهُ: إيتِ عُمَرَ فأَقْرِئْهُ مِنّي السلامَ وأخبِرْهُ أنَّهُمْ يُسْقَوْنَ (أي سيأْتيكُمُ المطرُ) وقلْ لهُ: عليكَ بالكَيْسِ الكَيْسِ (أيِ اجْتَهِدْ في أمرِ الأُمَّةِ) فأتى الرَّجُلُ فَأَخْبَرَ عُمَرَ فقالَ : يا ربُّ ما ءالوا إلا ما عَجَزْتُ» (أيْ لا أُقَصّرُ معَ الاستطاعةِ، أيْ سَأسْعَى ما في وِسْعِي لخدمةِ الأمّةِ) .
وهذا الرّجُلُ هوَ بلالُ بنُ الحارثِ المُزَنِيُّ الصَّحابِيُّ قصدَ قبْرَ رسولِ اللهِ (ص) للتبَرُّكِ وقالَ «يا رسولَ اللهِ اسْتَسْقِ لأُمَّتِكَ فإنّهُمْ قدْ هَلَكُوا» فلَمْ يُنْكِرْ عليهِ سيدنا عُمَرُ بن الخطاب ولا غَيْرُهُ.
اللهمَّ ارْزُقْنا حُسْنَ الاقتداءِ بالأنبياءِ والصالحينَ إنَّكَ على كلّ شىءٍ قديرٌ.
هذا وأسْتَغْفِرُ الله لي ولَكُم.
الخطبةُ الثانيةُ:
إنَّ الحَمدَ للهِ نَحمدُهُ ونستعينُهُ ونستهديهِ ونشْكرُهُ ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنَا ومن سيئاتِ أعمالنا، مَن يهدِ اللهُ فهوَ المهْتَدْ ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ لهُ، والصلاةُ والسَّلامُ على سيّدِنا ووسيلَتِنَا إلى اللهِ سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِهِ وصحبِهِ الطيبينَ الطاهرينَ.
أمّا بعدُ، عبادَ اللهِ، أوصيكمْ ونفسي بتقوَى اللهِ فاتَّقُوهُ. يقولُ اللهُ تعالى في القرءانِ العظيمِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ *﴾.
واعلَمُوا رحِمَكُمُ اللهُ تعالى أنَّهُ لا دليلَ حَقيقِيَّ يدلُّ على عَدَمِ جوازِ التوسّلِ بالأنبياءِ والأولياءِ في حالِ غَيْبَتِهِمْ أوْ بعدَ وفاتِهِمْ بِدَعْوى أنَّ ذلكَ عبادةٌ لِغَيْرِ اللهِ لأنَّهُ ليسَ عبادَةً لِغَيْرِ اللهِ مُجَرَّدُ النّداءِ لحيّ أو ميّتٍ ولا مجرَّدُ التعظيمِ ولا مجرَّدُ الاستعانةِ بغيرِ اللهِ ولا مجرَّدُ قَصْدِ قبرِ وليّ للتَّبَرُّكِ؛ فالعبادةُ أقْصى غايةِ الخُشوعِ والخُضوعِ. وقالَ بعضُ العلماءِ: «العبادةُ نهايةُ التذلُّلِ ولا تَكونُ إلاّ للهِ».
نهايةُ التذلُّلِ لا تكونُ إلا للهِ، فليسَ مجرَّدُ التذلُّلِ عبادةً لغيرِ اللهِ وإلا لَكَفَرَ كلُّ مَنْ يَتَذَلَّلُ لِلْملوكِ والعُظَماءِ. وقَدْ ثَبَتَ أنَّ مُعاذَ بْنَ جَبَلٍ لَمَّا قَدِِمَ مِنَ الشَّامِ سَجَدَ لِرسولِ اللهِ. والسُجودُ إِخوةَ الإيمانِ مَظْهَرٌ كبيرٌ مِنْ مظاهِرِ التَّذَلُّلِ، ولكنْ سيدُنا مُعاذ لم يسجد للنبي سجود عبادة إنما للاحترام والتعظيم. فقالَ الرّسولُ: ما هذا؟ فقالَ مُعاذ: يا رسولَ اللهِ إنّي رأيتُ أهلَ الشَّامِ يَسْجُدونَ لِبَطارِكَتِهِمْ وأساقِفَتِهِمْ وأنتَ أَوْلى بِذَلِكَ. فقالَ لهُ صلى الله عليه وسلم: «لا تَفْعَلْ، لَوْ كُنْتُ ءامُرُ أَحَدًا أنْ يَسْجُدَ لأحَدٍ لأَمَرْتُ المرأةَ أنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِها».
ولم يقلْ لهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «كَفَرْتَ» ولا قالَ لهُ «أشركْتَ» مَع أنَّ سُجودَهُ للنبيّ مَظْهَرٌ كبيرٌ مِنْ مَظاهِرِ التَّذَلُّلِ. وسيدنا معاذ لم يسجد للنبي سجود عبادة إنما للاحترام والتعظيم. وهذا السجود للاحترام والتعظيم في شرع سيدنا محمد هو حرام. أما السجود لإنسان بقصد العبادة فهو كفر في جميع الشرائع.
فَحَصّنْ نفسَكَ أخي المسلمَ بِعِلْمِ الدّينِ لِتَضَعَ الأمورَ في نِصَابِهَا فَتُحَرّمَ ما حَرَّمَهُ اللهُ وتُحَلّلَ ما أَحَلَّهُ اللهُ.
واعلَموا أنَّ اللهَ أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ، أمرَكُمْ بالصلاةِ والسلامِ على نبيِهِ الكريمِ فقالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *﴾ . اللّهُمَّ صَلّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا صلّيتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيم، وبارِكْ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنّكَ حميدٌ مجيدٌ، يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ *يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ *﴾ ، اللّهُمَّ إنَّا دعَوْناكَ فاستجبْ لنا دعاءَنا فاغفرِ اللّهُمَّ لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا، اللّهُمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ، ربَّنا ءاتِنا في الدنيا حسَنةً وفي الآخِرَةِ حسنةً وقِنا عذابَ النارِ، اللّهُمَّ اجعلْنا هُداةً مُهتدينَ غيرَ ضالّينَ ولا مُضِلينَ، اللّهُمَّ استرْ عَوراتِنا وءامِنْ روعاتِنا واكفِنا مَا أَهمَّنا وَقِنَا شَرَّ ما نتخوَّفُ. عبادَ اللهِ إنَّ اللهَ يأمرُ بالعَدْلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاءِ والمنكرِ والبَغي، يعظُكُمْ لعلَّكُمْ تذَكَّرون. اذكُروا اللهَ العظيمَ يذكرْكُمْ، واشكُروهُ يزِدْكُمْ، واستغفروه يغفِرْ لكُمْ، واتّقوهُ يجعلْ لكُمْ مِنْ أمرِكُمْ مخرَجًا، وَأَقِمِ الصلاةَ.