إنَّ الحَمدَ للهِ نَحمدُهُ ونستعينُهُ ونستهديهِ ونشْكرُهُ ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنَا ومن سيئاتِ أعمالنا، مَن يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ ومن يُضلِل فلا هادِيَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلـهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ وأشهد أنّ محمّدًا عبدُهُ ورسولُهُ مَنْ بَعَثَهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ هادِيًا ومُبَشّرًا ونَذيرًا، بَلَّغَ الرِّسالَةَ وأَدَّى الأمانَةَ ونَصَحَ الأمَّةَ فجَزَاهُ اللهُ عنَّا خَيْرَ ما جَزَى نبِيًا مِنْ أَنبِيائِهِ، صَلَواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِ وعلى كلّ رَسولٍ أَرْسَلَهُ.
أمّا بَعْدُ عبادَ اللهِ، فإنّي أوصي نفسي وأصيكُمْ بِتَقوى اللهِ فاتَّقوهُ.
يقولُ اللهُ تبارَكَ وتعالى في كتابهِ العَزيزِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ *﴾ [سورة المائدة] .
ويقولُ عزَّ وجَلَّ: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسَرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ *﴾ [سورة المائدة] . ألا يا أخي المؤمن:
باللهِ عليكَ يا رَفيعَ القَدْرِ بالتَّقْوَى لا تَبِعْ عِزَّها بِذُلّ المعاصِي.
أيُّها الإخوةُ: كمْ كانتْ هَذِهِ الفِعْلَةُ الخبيثَةُ أيْ فِعْلَةُ شُرْبِ الخمْرِ سَببًا لِزِنا الأخِ بِأُخْتِهِ ولِوُقوعِ الأبِ على ابْنَتِهِ والعياذُ باللهِ، كَمْ كانتْ سَبَبًا لِضَياعِ كثيرٍ مِنَ الشَّبابِ وتَفَكُّكِ كثيرٍ مِنَ الأُسَر؟! فَحَرِيٌّ بِنَا نَحْنُ عَلى هذا الِمنْبَرِ وأنتُمْ كلٌّ في مَوْقِعِهِ أنْ نُحَذِّرَ مِنْ هَذِهِ المعصِيَةِ التي جَعَلَها اللهُ تعالى مِنْ أَكْبَرِ الكبائِرِ ومِنْ أَحْرَمِ الحَرامِ، فَقَدْ وَرَدَ في الحديثِ: «لَعَنَ رسولُ اللهِ ساقي الخَمْرِ ومُسْقاها وعاصِرَها ومعتَصِرَها وحامِلَها والمحمولَةَ إليهِ ومُبْتاعَهَا وءاكلَ ثَمَنِها» رواهُ الطَّبرانيُّ والبَزَّارُ. ولكنّ الرسول لم يلعن مجرد الناظر إلى الخمر.
فحرمةُ الخمرِ مَعلومَةٌ مِنَ الدّينِ بالضَّرورَةِ، فَمَنْ أَنْكَرَ حُرْمَةَ الخمْرِ صارَ كافِرًا لأنَّهُ كَذَّبَ القرءانَ والحديثَ النَّبوِيَّ إلا أنْ يكونَ قَريبَ عَهْدٍ بِإسْلامٍ ما سَمِعَ قَبْلَ أنْ يُسْلِمَ أنَّ المسلمينَ دينُهُمْ يحرّمُ الخَمْرَ فهذا إذا اسْتَحَلَّها لا يكْفُرُ لكنْ يُعَلَّمُ، يُقالُ لهُ الخمْرُ في دينِ الإِسلامِ حَرامٌ.
عبادَ اللهِ، إنَّ الوعيدَ الذي وَرَدَ في الحديثِ الصَّحيحِ في شاربِ الخمرِ وعيدٌ شديدٌ، فَقَدْ قالَ صلى الله عليه وسلم: «قالَ لي جبريل: شارِبُ الخمْرِ كَعابِدِ الوَثَنِ» رواهُ البزّارُ. أي المدمن على شرب الخمر وهذا للتشبيه وليس معناه كافر خارج من الإسلام.
وهذا يَدُلُّ على أنَّها مِنْ أَحْرَمِ الحرامِ أيْ مِن أكبر الكبائِرِ ولكنَّها لَيْسَتْ كُفْرًا، ولا يَصِحُّ عنْ نَبِيّ مِنَ الأنبياءِ أنَّهُ شَجَّعَ عليها. سيّدُنا عيسى عليهِ السَّلامُ يَفتَري عليهِ بعضُ الناس يقولونَ إنَّهُ قالَ: «قليلٌ مِنَ الخمْرِ يُفْرِحُ قَلْبَ الإنْسانِ». وهذا كَذِبٌ وافْتِراءٌ على سيّدِنا عيسى المسيحِ لأنَّ الأنبياءَ هُمْ صَفْوَةُ الخَلْقِ وأفضَلُ الخلْقِ لا يُشَجّعونَ على ما فِيه إتْلافُ العَقْلِ، كلُّ الشرائِعِ مِنْ لَدُنْ ءادَمَ إلى سيّدِنا عيسى وإلى سيّدِنا محمّدٍ مُتَّفِقونَ على وجوبِ حِفْظِ العَقْلِ، والخمْرُ إِتلافٌ لِلْعَقْلِ، فلا يُمْكِنُ أنْ يُشَجّعَ نَبيٌّ على شُرْبِها.
ومنْ مَفَاسِدِ الخمر إِخوةَ الإيمانِ أنَّ مَلِكَ المجوسِ، أيِ الذينَ يعبدونَ النارَ، شرِبَ الخمرَ ذاتَ يوم فَلَعِبَتْ بهِ الخمْرُ فَوَقَعَ على أُخْتِهِ ثمّ لَمَّا صحَا مِنْ سُكْرِهِ فَكَّرَ في أنْ يُرَوّج في رعِيَّتِهِ زواجَ الأخِ منْ أختِهِ فجَمَعَ أُناسًا مِنْ رَعِيَّتِهِ فقالَ لَهُم: «هلْ نَحْنُ أحسنُ منْ ءادَمَ، وءادمُ كانَ زوَّجَ بَنيهِ مِنْ أَخَواتِهِمْ».
إخوةَ الإيمانِ، كان يجوز في شَرْعِ ءادمَ للأخِ أنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ أُختِهِ منَ البَطْنِ الثاني، والحِكْمَةُ من ذلكَ كَثْرَةُ التَّناسُلِ، أمَّا في زَمانِ هذا الملِكِ الأمْرُ كانَ حَرامًا فقالَ لَهُم: «نحنُ لسْنا أَحْسَنَ منْ ءادَمَ نَمْشي على ما كانَ عليهِ ءادمُ» فوافَقَهُ بعضٌ وخالَفَهُ بَعْضٌ، فالذينَ خالَفوهُ قَتَلَهُمْ، فَمَشَى هذا الأمرُ فيهِم، وقد كانَ لهم كتابٌ سماويٌّ أَنْزَلَهُ اللهُ على بعضِ الأنبياءِ يدْرُسونَهُ، يَقْرَأونَهُ، ورُفِعَ هذا الكتابُ منْ بَيْنِهِمْ لأنَّهُمْ كَفَروا، هذا مِنْ جُمْلَةِ مفاسِدِ الخمْرِ إلى غيرِ ذلكَ مِنَ القبائِحِ والفظائِعِ. وقدْ ذُكِرَ أنَّ بعضَ الذينَ يَسْكَرونَ يَقْفِزُ لِيَتَناوَلَ القَمَرَ، يظنُّ أنَّ القمرَ في مُتَنَاوَلٍ مِنْهُ، فالخمْرُ نتائِجُها هذِهِ القَبائِحُ فلا يحصل من نبي مِنَ الأنبياءِ أنْ يُشَجّعَ عَليها.
إخوةَ الإيمانِ، المرءُ على دينِ خليلِهِ فلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخالِلُ، فَلْيَنْظُرْ أحَدُكُم مَنْ يُصاحِبُ، ولْيَنْظُرْ أحَدُكُمْ إلى وَلَدِهِ منْ يصاحِبُ، ولْيَخْتَرِ الواحدُ منْكُمُ الصُّحْبَةَ الطَّيّبَةَ التي تَصْحَبُهُ إلى الخيْراتِ والبَرَكاتِ، إلى مَجْلِسِ عِلْمٍ، إلى عيادَةِ مريضٍ ونحوِ ذلكَ منَ الطاعاتِ، ولْيُبْعِدْ أَهْلَهُ وأولادَهُ عَنْ رُفَقَاءِ السوءِ الذينَ قَدْ يَصْحَبونَهُ إلى أماكنِ الرذيلَةِ والفسادِ، وبسبب ذلكَ قَدْ يُدْمِنُ على شُرْبِ الخمرِ أو على تعاطي المخدّراتِ المضِرَّةِ بسائِرِ أنْواعِها، فهذِهِ أيضًا يَحْرُمُ تناوُلُها لِما فيها مِنَ الضَّرَرِ على الجسَدِ. فقدْ روَى الإمامُ أحمد في مُسنَدِهِ: «نَهى رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كُلّ مُسْكِرٍ ومُفَتّرٍ». والمفَتِّرُ هو ما يُحْدِثُ في الجِسْمِ والعيْنِ أَثَرًا. وقَدْ سُئِلَ ابْنُ حَجَرٍ الهيْتَمِيُّ المكيُّ عنِ الأفيونِ الذي يُجْلَبُ مِنْ بعضِ البلادِ هلْ يَحْرُمُ أَكْلُهُ؟ فأجابَ بِقَوْلِهِ: أَكْلُ الأَفيونِ حَرامٌ، وقَدْ صَرَّحَ الأَئِمَّةُ بِحُرْمَتِهِ وعَدُّوهُ مِنَ السُّمومِ المخَدّرَةِ، وهذا مُشاهَدٌ لا يَخْفى على من لَهُ أَدْنى ذَوْقٍ أو إِحساسٍ.
إخواني، لا يُشْتَرَطُ أنْ يكونَ الضَّياعُ والتّيهُ في الشَّارِعِ والأَزِقَّّةِ، فقَدْ يَكونُ الأولادُ في الجامعاتِ ضائعينَ وفي المدارِسِ تائهينَ ويَلْبَسونَ الثّيابَ الفاخِرَةَ ويَأْكُلونَ الطعامَ اللَّذيذَ الفاخِرَ ولكِنَّهُم في الواقع يكونونَ تائهينَ ضائعينَ.
لذلكَ نقولُ لكُمْ إنَّ تَربِيَةَ الأُسْرَةِ بالتَّربِيَةِ الدّينيَّةِ السَّليمَةِ أَهَمُّ مِنْ أَثاثِ المنْزِلِ والمفروشاتِ، وأهمُّ مِنَ اللّباسِ والطَّعامِ والشّرابِ وأهَمُّ مِنَ الرّحلاتِ والنُّزُهاتِ، وهذهِ التربِيَةُ تكونُ بالمواظَبَةِ على حُضورِ مَجالِسِِِ عِلْمِ الدّينِ، بِفَتْحِ مجالِسِ علْمِ الدّينِ في البُيوتِ، هذِهِ البيوت التي أَنْعَمَ اللهُ بها عليكُم اشْكُروا اللهَ تعالى عليْها بِجَعْلِهَا أَماكِنَ لِنَشْرِ عِلْمِ الدّينِ الصَّافي. فَقَدْ قالَ أحد الأولياء رَضِيَ اللهُ عنْهُ وأَرْضاهُ، لِمَنْ فَتَحُوا مجالِسَ عِلْمِ الدّينِ في بيُوتِهِم: «نَزَلَتْ عَلَيْكُمُ الرَّحَمَاتُ نَزَلَتْ عَلَيْكُمُ البَرَكاتُ».
ونَخْتِمُ بِهَذِهِ الفَائِدَةِ العَظيمَةِ أنَّهُ إنْ سُئِلْتَ أَخي المسْلِمَ عَنْ مَعْنَى الآيةِ الكريمة: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا *﴾ [سورة البقرة] فالجواب أنَّ الخمْرَ تَشْفِي مِنْ بَعْضِ الأَمْراضِ وأما قولُ النبيّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الخمْرِ: «إِنَّها داءٌ وَلَيْسَتْ بِدَواءٍ» فمعناه: كأنه لَيْسَ فيها دَواءٌ مِنْ شِدَّةِ خُبْثِها، مِنْ كَثْرَةِ خُبْثِها كَأَنَّها لا دَواءَ فيها بِالمرَّةِ، ولَيْسَ مَعْناهُ أنَّها لا تَشْفِي بِالمرَّةِ، مَعْنى الحديثِ كَأَنَّهُ لَيْسَ فيها شَىءٌ مِنَ الشّفاءِ لِعُظْمِ ضَرَرِهَا، فَهَذا الذي ذَكَرْناهُ تَوْفيقٌ بَيْنَ القُرءانِ والحديثِ لأنَّ الحديثَ لا يُعارِضُ القُرءانَ .
واللهَ نسأَلُ أنْ يَحْفَظَنا مِنَ المعاصي وأَنْ يُوَفّقَنا إلى ما يُحِبُّ ويَرْضى.
هذا وأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظيمَ لي ولَكُم.
الخطبةُ الثانيةُ:
إنَّ الحَمدَ لله نحمدُهُ ونستعينهُ ونستهديهِ ونشكرُهُ ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنَا ومن سيئاتِ أعمالنا، مَن يهدِ الله فلا مُضِلَّ لهُ ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلـهَ إلا الله وحدَهُ لا شريكَ لهُ وأنَّ محمّدًا عبدُهُ ورسولُهُ صَلَواتُ الله وسلامُهُ عليهِ وعلى كلّ رسولٍ أَرْسَلَهُ. أمّا بعدُ عبادَ الله فإنّي أوصيكُمْ ونفسي بِتَقوَى الله العليّ القديرِ واعلَموا أنَّ الله أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ، أمرَكُمْ بالصلاةِ والسلامِ على نبيِهِ الكريمِ فقالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *﴾ اللّهُمَّ صَلّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا صلّيتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيم، وبارِكْ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنّكَ حميدٌ مجيدٌ، يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ *يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ *﴾ ، اللّهُمَّ إنَّا دعَوْناكَ فاستجبْ لنا دعاءَنا فاغفرِ اللّهُمَّ لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا، اللّهُمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ، ربَّنا ءاتِنا في الدنيا حسَنةً وفي الآخِرَةِ حسنةً وقِنا عذابَ النارِ، اللّهُمَّ اجعلْنا هُداةً مُهتدينَ غيرَ ضالّينَ ولا مُضِلينَ، اللّهُمَّ استرْ عَوراتِنا وءامِنْ روعاتِنا واكفِنا مَا أَهمَّنا وَقِنا شَرَّ ما نتخوَّفُ. عبادَ الله إنَّ الله يأمرُ بالعَدْلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاءِ والمنكرِ والبَغي، يعظُكُمْ لعلَّكُمْ تذَكَّرون.اذكُروا الله العظيمَ يذكرْكُمْ، واشكُروهُ يزِدْكُمْ، واستغفروه يغفِرْ لكُمْ، واتّقوهُ يجعلْ لكُمْ مِنْ أمرِكُمْ مخرَجًا، وَأَقِمِ الصلاةَ.