إنَّ الحَمدَ للهِ نَحمدُهُ ونستعينُهُ ونستهديهِ ونشْكرُهُ ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنَا ومن سيئاتِ أعمالنا، مَن يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ ومن يُضلِل فلا هادِيَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلـهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ وأشهدُ أنّ سيّدَنا محمَّدًا عبْدُهُ ورَسولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وعلى كلّ رسولٍ أرسلَهُ.
أمّا بعدُ عبادَ اللهِ، أوصيكُمْ ونَفْسي بتقوى اللهِ العليّ القديرِ القائِلِ في مُحْكَمِ كِتابِهِ: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ *﴾ [سورة الزمر] . أيْ إنّكَ يا محمدُ ستموتُ وإنهمْ سيموتونَ.
ورَوَى الطَّبرانيُّ أنَّ سيدنا جبريلَ جاءَ إلى الرسولِ صلى الله عليه وسلم فقالَ لهُ: «يا محمَّدُ عِشْ ما شِئْتَ فإنَّكَ مَيّتٌ، وأحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فإنَّكَ مُفَارِقُهُ» .
إنَّ اللهَ تبارَكَ وتَعَالى لم يَخْلُقْنا في هذِهِ الدُّنيا لِنُعَمّرَ فيها إلى الأَبَدِ، لم يَخْلُقْنا لِنأْكُلَ ونَشْرَبَ وننغمِسَ في شَهَواتِها وملذاتِها، وإنّما خَلَقَنا لِيأْمُرَنَا بِعِبادَتِهِ كما قالَ تعالى في القرءانِ الكريمِ: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ *﴾ [سورة الذاريات] .
فالإنسانُ الذي دانَ نفسَهُ وعمِلَ لِما بعدَ الموتِ هوَ الذكِيُّ الفَطِنُ. وأمّا العاجِزُ فهوَ الذي أتْبَعَ نفسَهُ هواهَا، هُوَ الذي انتَهَكَ حُرُماتِ اللهِ تعالى وتعدَّى حدودَهُ واقْتَرَفَ الآثامَ ثمَّ تَمَنَّى على اللهِ ما تَمَنَّى. إن الإنسان إذا مات يَتْبَعُهُ أهلُهُ ومالُهُ وعمَلُهُ، ثم يَرْجِعُ أهلُهُ ومالُهُ ويَبْقَى عَمَلُهُ. وقدْ قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أسرِعُوا بالجنازَةِ فإنْ تَكُ صالِحَة فخيرٌ تُقَدّمُونَها إليهِ، وإنْ تَكُ سِوَى ذلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عنْ رقابِكُمْ» .
وقد حدّثناكُم إخوةَ الإيمانِ في الخطبةِ الماضيةِ أنَّ التَّقِيَّ إذا حُمِلَ إلى الدَّفنِ روحُهُ تكونُ فوقَ الجسَدِ، ومِنْ شِدَّةِ فَرَحِهِ واشتِياقِهِ للقَبْرِ الذي هوَ ذاهِبٌ إليهِ يقولُ: قدّموني قدّموني. وهنا ألفِتُ انتباهَكُمْ أيُّها الإخوةُ أنَّهُ يُسْتَحَبُّ ذِكْرُ اللهِ أثناءَ تشييعِ الجنازةِ ولا يُلْتَفَتُ إلى كلامِ المُشَبّهَةِ المُحَرّمينَ لقولِ: «وحّدُوا اللهَ» أثناءَ تشييعِ الجنازةِ . ويكفي في الردّ عليهم قولُ اللهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا *﴾ [سورة الاحزاب] .
ويُسْتَحَبُّ تلقينُ الميّتِ عَقِبَ دفنِهِ فَيَجْلِسُ عندَ رأسِهِ إنسانٌ ويقولُ: «يا فلانُ ابنَ فلانةَ، فإنَّهُ يسمَعُهُ ولا يُجيبُ. ثمّ يقولُ: يا فلانُ ابنَ فلانةَ، فإنَّهُ يستوي قاعِدًا. ثمَّ يقولُ: يا فلانُ ابنَ فلانةَ، فإنَّهُ يقولُ: أرشِدْنا يرحَمُكَ اللهُ. ثمَّ يقولُ لهُ: اذكُرْ ما خرجتَ عليهِ منَ الدنيا شهادةَ أنْ لا إلـه إلا اللهُ وأنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ وأنَّكَ رضيتَ باللهِ ربًّا وبالإسلامِ دينًا وبمحمدٍ نبيًا وبالقرءانِ إمامًا فإنَّ مُنْكَرًا ونَكِيرًا يأخذُ كلُّ واحدٍ منهُما بِيَدِ صاحِبِهِ فيقولُ: انطلقْ بنا ما يُقْعِدُنا عندَ منْ لُقّنَ حُجَّتَهُ». وهذا إخوةَ الإيمانِ وردَ في الحديثِ عنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم .
ولقراءَةِ سورةِ يس شأْنٌ عظيمٌ؛ فلقدْ ورَدَ عنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يس قلبُ القرءانِ لا يَقْرَؤُهَا رجلٌ يريدُ اللهَ والدارَ الآخرةَ إلاّ غُفِرَ لهُ، واقْرؤوهَا على مَوْتاكُمْ» .
ومما اسْتَدَلَّ بهِ العلماءُ على جوازِ قراءةِ القرءانِ على قبرِ الميتِ المسلمِ وانتفاعِهِ بالقراءةِ حديثُ البخاريّ ومسلمٍ عنِ ابنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنْهُمَا قالَ: «مرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِحائِطٍ (أي بستانٍ) منْ حيطانِ المدينةِ أو مكَّةَ فسمِعَ صوتَ إنسانَيْنِ يُعذّبانِ في قبريْهِمَا، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «يعذَّبانِ وما يُعذَّبانِ في كبير» ثمَّ قالَ: «بلى، كانَ أحدُهُما لا يستَتِرُ مِنْ بولِهِ، وكانَ الآخَرُ يمشِي بالنَّميمَةِ» ثمَّ دعا بِجريدَةٍ (أي بعسيبٍ رطبٍ) فَكَسَرَهَا كِسْرَتَيْنِ، فوضعَ على كلّ قبرٍ منهُما كِسْرَةً، فقيلَ لهُ: يا رسولَ اللهِ لِمَ فعلتَ هذا؟ فقالَ : لعلَّهُ أنْ يُخَفَّفَ عنهُما ما لم يَيْبَسا» لأنَّ هذا العسيبَ الرطبَ يَذكُرُ اللهَ تعالى، يُسبّحُ اللهَ تعالى ما دامَ رَطبًا.
فإن كان المسلم الميت ينتفع بتسبيح العسيب الرطب فكيف بقراءة القرءان عند قبره من المسلم الحيّ؟
ثمَّ عندَ الاجتماعِ إخوةَ الإيمانِ لِتَقَبُّلِ العزاءِ بهذا الميت المسلمِ ننصحكم بالإكثارِ منْ ذكرِ اللهِ ومنَ الاستغفارِ لهُ ومنْ قراءَةِ القرءانِ قراءةً صحيحةً وإهدائِهِ الثوابَ فإنَّ منْ سبَقَنا منْ أهلِنَا منَ المسلمينَ ينتظِرُ منَّا الهدايا. ويناسب عندَ تَقَبُّلِ العزاءِ الاستماع إلى كلمةٍ طيبةٍ وموعظةٍ مهمّةٍ تذكّرُنا بأنَّ الموتَ حقٌّ وتحثّنا على الصَّبْرِ عندَ نزولِ المصائبِ والبلايا وتُذكّرُنا بما أوجَبَ الله علينا وتنْهانا عمّا حَرَّمَ، فإنَّ الذّكرى تَنفَعُ المؤمنينَ.
اللهمَّ انفعْنَا بِعِلْمِ الدّينِ واجْعَلْنا مِنَ الذينَ يَسْمَعونَ القولَ فيتَّبِعونَ أحسنَهُ.
هذا وأسْتَغْفِرُ الله لي ولَكُم.
الخطبةُ الثانيةُ:
إنَّ الحَمدَ لله نحمدُهُ ونستعينهُ ونستهديهِ ونشكرُهُ ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنَا ومن سيئاتِ أعمالنا، مَن يهدِ الله فلا مُضِلَّ لهُ ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلـهَ إلا الله وحدَهُ لا شريكَ لهُ وأنَّ محمّدًا عبدُهُ ورسولُهُ صَلَواتُ الله وسلامُهُ عليهِ وعلى كلّ رسولٍ أَرْسَلَهُ.
أمّا بعدُ عبادَ الله فإنّي أوصيكُمْ ونفسي بِتَقوَى الله العليّ القديرِ واعلَموا أنَّ الله أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ، أمرَكُمْ بالصلاةِ والسلامِ على نبيِهِ الكريمِ فقالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *﴾ اللّهُمَّ صَلّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا صلّيتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيم، وبارِكْ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنّكَ حميدٌ مجيدٌ، يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ *يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ *﴾ ، اللّهُمَّ إنَّا دعَوْناكَ فاستجبْ لنا دعاءَنا فاغفرِ اللّهُمَّ لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا، اللّهُمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ، ربَّنا ءاتِنا في الدنيا حسَنةً وفي الآخِرَةِ حسنةً وقِنا عذابَ النارِ، اللّهُمَّ اجعلْنا هُداةً مُهتدينَ غيرَ ضالّينَ ولا مُضِلينَ، اللّهُمَّ استرْ عَوراتِنا وءامِنْ روعاتِنا واكفِنا مَا أَهمَّنا وَقِنَا شَرَّ ما نتخوَّفُ. عبادَ الله إنَّ الله يأمرُ بالعَدْلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاءِ والمنكرِ والبَغي، يعظُكُمْ لعلَّكُمْ تذَكَّرون.اذكُروا الله العظيمَ يذكرْكُمْ، واشكُروهُ يزِدْكُمْ، واستغفروه يغفِرْ لكُمْ، واتّقوهُ يجعلْ لكُمْ مِنْ أمرِكُمْ مخرَجًا، وَأَقِمِ الصلاةَ.